أهم الأحداثالمشهد السياسيوطنية

باحث أمريكي: “تخيلات قيس سعيّد” ستغرق تونس.. ومساعي الجزائر “مجرد أمنية”

تونس ــ الرأي الجديد

قال دانيل برومبرغ ( Brumberg Daniel )، الأستاذ المساعد للعلوم السياسية بجامعة جورج تاون، ورئيس مؤسسة “إحلال الديمقراطية والتغيير السياسي في الشرق الأوسط”، “إن توقيف راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامي التوجه، ورئيس البرلمان، في 18 أفريل، يمثل تصعيدًا دراماتيكيًا، في هجوم الرئيس التونسي قيس سعيد على المعارضة السياسية، وهو الأبرز من بين حوالي عشرين زعيمًا، اعتقلهم النظام..

وكتب المحلل الأمريكي على “تويتر”، إن بعض الضباط المائة الذين فتشوا منزل الغنوشي، سألوا مراًرا وتكراًرا عن مكان إخفاء الذهب والمجوهرات.

وعلى الرغم من غرابة الأمر، فإن هذا الجهد للكشف عن الثروة الخفية المزعومة، يشير إلى أن قوات الأمن تشتري نظريات المؤامرة التي روجها سعيد – وحلفاؤه في وسائل العالم عبر الإنترنت – بنجاح كبير.

بين النظرة التآمرية.. والقومية الإستفزازية
برومبرغ يشدد في تقريره على أن “أحد المكونات الرئيسية في نظرة سعيد التآمرية للعالم هو اعتقاده بأن القوى الغربية تحاول فرض إصلاحات في السوق، تهدف إلى دعم النخبة الفاسدة للغاية، التي يقول إنها قادت تونس إلى أزمتها الاقتصادية الحالية. واستدعى هذا الموضوع، في 6 أفريل، رفض سعيد حزمة إنقاذ بقيمة 1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لتونس، وإصراره على أن تونس “ليست للبيع”.


زعم سعيد أن قوى “داخلية” مجهولة تبيع “تونس لمصالح أجنبية”، وحذر من أن التونسيين “يجب أن يعتمدوا على أنفسهم”. أدلى سعيد بهذا التصريح على ضريح الرئيس الحبيب بورقيبة – وفي نفس يوم ذكرى وفاته – مما يشير إلى عزمه على الحفاظ على إرث القومية الاستفزازية الذي ورثه مؤسس الدولة التونسية الحديثة.. لكن القدر سيحدث، إذ بعد أسبوعين تقريًبا، أعلنت السفارة الأمريكية، عن تسليم 25000 طن متري من القمح. وهو ما أثار موجة من الانتقادات من المدونين التونسيين، الذين أشاروا إلى أن تونس أصبحت تعتمد بشكل متزايد على الولايات المتحدة في إمداداتها الغذائية، حتى مع استدراج الرئيس للقوى الغربية، وخاصة الصين، في محاولتها الدفاع عن سيادة تونس وحكمها الذاتي..

ولاحظ هؤلاء النقاد وغيرهم، أنه لا يوجد بديل واضح للعمل بعيدا عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ناهيك عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. إذ تفتقر الصين ودول الخليج العربية إلى الوسائل وحتى الإرادة السياسية لإنقاذ تونس. ولا يمكن لبنك التنمية الجديد ومقره شنغهاي، والذي تموله مجموعة البريكس (البرازيل والصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا)، أن يحل محل صندوق النقد الدولي.

وعلى ما يبدو، تحاول رئيسة الوزراء التونسية نجلاء بودن، ووزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيد، إنقاذ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وتؤكد جهودهم الدقيقة على التناقضات العميقة التي تحرك مشروع سعيد الاستبدادي، ناهيك عن تحالف القوى الذي يحتمل انقسامه والذي جمعه لدفعه إلى الأمام..

الانهيار الاقتصادي الوشيك
لكن من غير المرجح أن يتحدى وزراءه رئيًسا ما يزال يتمتع بتأييد واسع. وبالتالي، قد يتطلب الأمر انهياًرا اقتصادًيا كاملا لتشويه سمعة المستبد الطموح في تونس والمزيج السام من الأوهام والاستياء الذي دافع عنه سعيد نيابة عن “الشعب”.


كان التحدي الذي يواجهه سعّيد، هو الحفاظ على تحالف فضفاض من الجماعات التي يتجذر دعمها الضمني أو الصريح في مخاوفهم واستيائهم المشترك، بدلا من رؤية اقتصادية أو سياسية مشتركة: الشباب المنفصلون، ورجال الأعمال والمهنيون من الطبقة الوسطى المحاصرون، والمثقفون الليبراليون، والعمال ذوو الياقات البيضاء والزرقاء الضعيفة في القطاع العام، جميعهم مستاءون من الطبقة السياسية التي بدت طوال سبع سنوات مشلولة، بسبب الصراعات الشخصية والعائلية والأيديولوجية الصغيرة..

أصبح قادة النهضة (خاصة الغنوشي) الذين كانوا في الحكومة منذ ثورة 2010-2011 بمثابة مانع لهذه المشاعر – وهو الوضع الذي يساعد في تفسير عدم وجود احتجاجات جماهيرية ضد اعتقال الغنوشي. في الوقت نفسه، يبدو أن الانتقادات أو عدم الرضا عن سياسات الرئيس الاقتصادية يتزايد.

يأتي بعض هذا الاستياء من الاتحاد العام التونسي للشغل (  UGTT)، الذي قال إن صفقة صندوق النقد الدولي تشكل تهديًدا للعمال. لكن الانتقادات جاءت أيًضا من المعلقين في وسائل الإعلام الرئيسية والنقاد الاقتصاديين، وحتى بعض قادة الأعمال.

وقد راهن بعض هؤلاء الأفراد على أنه على الرغم من خطابه المناهض للاستعمار، فإن هجوم سعيد على النخبة السياسية، سيمهد الطريق للإصلاحات الاقتصادية التي فشل البرلمان السابق في تحقيقها. وكما قال أحد رجال الأعمال البارزين لكاتب هذا المقال، دانيل برومبرغ، فقد أيد “خمسون بالمائة” ما كان يفعله سعيد..

اليسار واتحاد الشغل
وعلق كثيرون ــ ممن كانوا يتوقعون إصلاحات اقتصادية ــ آمالهم الحذرة على جهود الوزراء المعينين من قبل سعيد للتمرير بمرسوم، سلسلة من القوانين المصممة لزيادة الإيرادات الضريبية وجذب الاستثمار الأجنبي. وكان أهم هذه الإجراءات، قانون الموازنة المعدل، والذي ُصممت شروطه جزئًيا للوفاء بالتزامات تونس بموجب خطة الإنقاذ التي قدمها صندوق النقد الدولي، والتي بلغت ملياري دولار.


لكن نسخة 2022 من هذا القانون لم ترضي أًيا من الجماعات المتنافسة التي دعمت أو على الأقل تسامحت مع سعيد. كانت الانتقادات من اليسار والاتحاد العام التونسي للشغل، قوية بشكل خاص، وتناولها سعيد نفسه، وادعى أنه بينما تمت صياغة القانون في وقت غير كاٍف “لتحقيق أهداف الشعب من أجل نظام ضريبي عادل”، فقد وقعه على الرغم من “عيوبه وخياراته غير المقنعة”.

وأثار قانون المالية المعدل لعام 2023 المزيد من الجدل، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه يعتمد على نظام ضريبي معقد يعتبر غير عادل و/ أو يتوقع على نطاق واسع ألا يدرّ أي إيرادات تتناسب مع الميزانية الحكومية المتوقعة. يبدو أن صندوق النقد الدولي يشارك هذه المخاوف. لذلك، بينما توصل إلى اتفاق مبدئي مع تونس في أكتوبر 2022، فقد تردد خلال الأشهر الستة الماضية في منح موافقته النهائية، مما أدى إلى مزيد من تأخير الإصلاحات، وحرمان البلاد من العملة الصعبة التي تحتاجها بشدة..

لماذا يرفض سعيّد عرض “النقد الدولي”؟
وحذر كبار المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، من أن تونس تتجه نحو الانهيار الاقتصادي، لكن هذا الوضع الخطير، دفع سعيد إلى محاولة تعزيز شرعيته المهتزة، من خلال تكرار معارضته لأي صفقة مع صندوق النقد الدولي، قد تأتي على حساب مؤيديه. ويبدو أن رفضه للإملاءات الخارجية، ودفاعه عن السيادة التونسية، يشير إلى أن الرئيس قد اختار المخاطرة بقطع حاسم مع صندوق النقد الدولي، حتى في الوقت الذي ما يزال فيه وزراؤه يحاولون التوصل إلى اتفاق..

وأظهر التنافر الواضح بين الحكومة بشأن صفقة صندوق النقد الدولي، وزير الاقتصاد سمير سعيد، الذي قال قبل أيام من بيان الرئيس في 6 أفريل، إن تونس بحاجة إلى اتفاق، انتقاد الرئيس سعّيد اللاحق لصندوق النقد الدولي، وهو ما لم يثِن الوزير سعّيد عن السعي لتحقيق هذا الهدف.

وأكد الوزير، الذي حضر الاجتماع السنوي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن خلال هذا الشهر، رغبة تونس في دفع الإصلاحات، مع ضمان الاستقرار الاجتماعي..

قبل اجتماعات واشنطن وبعدها، أشاد المسؤولون الغربيون بهذه المشاعر، وهكذا في 25 مارس بدا أن السفير الفرنسي في تونس، أندريه باران، يتوقع تصريحات سعيد عندما قال إن الإصلاحات في مصلحة تونس.

ومن واشنطن، قدر مدير صندوق النقد الدولي للشرق الأوسط، جهاد أزعور، أن “السلطات التونسية لم تطلب منا إعادة النظر في البرنامج حتى الآن”، وأصر على أن “هذا البرنامج صمم بفخر من قبل السلطات التونسية”، وهو يضم فريًقا من أكثر من 100 من كبار المسؤولين.

بالطبع، ما يعارضه سعيد، ليس القوة الأجنبية في حد ذاتها، بل السلطة العليا التي تمارسها المؤسسات المالية الغربية. يمكن أن يبدأ الحكم الذاتي في الداخل ، ولكن مثل غيره من الحكام المستبدين الشعبويين، الذين يسعون إلى إبعاد الضغط الغربي، يسعى سعيد إلى ربط بلاده بالعدد المتزايد من البلدان والمنظمات متعددة الأطراف الجديدة، التي حاولت إيجاد بدائل فعالة لصندوق النقد الدولي والعالم.

مسعى الجزائر مجرد أمنية
وتنتهج العديد من الدول العربية برنامًجا مشابًها، في محاولة لزيادة فضائها الدبلوماسي. وهكذا فإن الجزائر على وشك المشاركة في تحالف المانحين العرب لمساعدة جارتها تونس. لكن في حين تواصل سعيد مع القادة العرب في الخليج، بما يتجاوز قرض بقيمة 74 مليون دولار من صندوق النقد العربي في نوفمبر 2022 ( والذي قيل إنه عرض على أمل أن تتوصل تونس إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي)، فإن رغبة الجزائر تبقى فقط، مجرد أمنية.

يمكن لمعظم القادة العرب أن يشاركوا سعيد عداءه للأحزاب الإسلامية، ناهيك عن افتقاره للحماس للسياسة الديمقراطية. ومع ذلك، فإنهم لن يقوموا، وربما لا يستطيعون، سداد فاتورة التكاليف المتزايدة لسياسات سعيد الاقتصادية غير المتسقة، في حين أنه يحتقر اعتماد تونس الفعلي على المؤسسات الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص، فإن سعيد لديه خيارات أخرى قليلة.

خيارات محدودة
يستمر الدعم العسكري الأمريكي لتونس، على أنّ ميزانية وزارة الخارجية المقترحة لعام 2024 تخفض المساعدة الاقتصادية بنسبة هائلة تصل إلى 70 ٪، لكن إذا كان التهديد بخفض المساعدة الاقتصادية يعزز فقط عناد سعيد، فإنه ما يزال من الممكن أن يحرض بعض أعضاء حكومته على دفع الرئيس لشرب ما يراه هدية سامة من دعم صندوق النقد الدولي..

الحقيقة المحزنة، هي أن الأمر قد يتطلب أزمة متنامية لزعزعة التحالف المهتز الذي شكله سعيد لدعم مشروعه الاستبدادي. علامات مثل هذه الأزمة في كل مكان: التضحية بالنفس مؤخرا للاعب كرة قدم تونسي شهير، ونقص خطير في المياه، وانخفاض قيمة السندات التونسية والدينار التونسي، ناهيك عن الديون الخارجية التي تثير القلق، والسكان الذين يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة في يوم آخر.

لكن مع معاناة المزيد والمزيد من التونسيين من تقلبات الانهيار الاجتماعي والاقتصادي القريب، يواصل الرئيس سعيد الحديث عن أعداء وهميين، وحرب تحرير ضد الغرب.

لكن بعيًدا عن تحرير بلاده، فإن تخيلاته تغرق تونس..

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى