أهم الأحداثمقالات رأي

في ذكرى رحيل الزعيم: أي قراءة للبورقيبية نحتاج؟

 

بقلم: خالد شوكات*

تمر اليوم الذكرى العشرون لرحيل الزعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله، الذي فارق الحياة يوم 6 أفريل 2000 في سياق تاريخي غير سويّ..سياق كالذي عاشه سلفه الباي محمد الأمين، وكالذي سيعيشه خلفه زين العابدين بن علي، رحمهما الله..سياق حزين فيه كثير من نكران الجميل نتمنى أن تغادره بلدنا وأمتنا إلى غير رجعة، سالكة بذلك سبل البلدان والأمم المتحضرة.
لقد انخرطنا جميعا طيلة السنوات التسع الماضية ما بعد الثورة، في “هوجة” تصفية حسابات إيديولوجية وتاريخية معقّدة بدافع مصالح سياسية آنية صرفة. هناك من بيننا من عمد إلى “شيطنة” الزعيم وهناك بالمقابل من اعتلى به مقامات “التقديس” حتى عاد في خانة الآلهة والأنبياء المعصومين، وتبادل القوم جرّاء ذلك تهم “التكفير” و”التخوين”، وتبارى كلا الفريقين في “المزايدات” الكلامية و”المبالغات” النظرية إلى حدود دعوة بعضهم إلى “الانقلاب العسكري” على الديمقراطية و دعوة آخرين إلى تطبيق “الحد الثوري” على الأزلام والمنافقين..
بعد ما يقارب العشر سنوات من اللحظة الثورية وعشرين عاما من رحيل الزعيم، اعتقد ان الوقت حان كي تعود الغالبية – ولا أقول الجميع لان ذلك مستحيل- إلى الرشد والصواب.. أي إلى الهدوء والعقلانية في قراءة التاريخ وتقييم أداء الزعماء، حفظا لمقام هؤلاء الزعماء أنفسهم فإضفاء العصمة والقداسة يضرّهم أكثر مما ينفعهم، وحفظا كذلك للمصالح الوطنية العليا، فالشعوب التي تنشد التقدم هي الأمم التي تقرأ ماضيها بما يعزز قدرتها على ربح الرهانات المستقبلية، ولا أعتقد أن إذكاء الفتن والخصومات بناء على تعدد القراءات للتاريخ أمر حضاري أو مفيد.
مع ذلك أقول ان بوادر العقلانية، الرشدية والخلدونية، قد بدأت في الظهور على تفكير التونسيين وسلوكهم بلا شك، فالنسخة “الباجية” للبورقيبية اتسمت بقدر كبير من الاعتدال والوسطية، فالباجي قائد السبسي رحمه الله الذي تتلمذ على بورقيبة وعارضه أيضا، حاول تقديم قراءة وطنية عقلانية تحاول حفظ نقاط القوة من مكتسبات وانجازات (أسس الدولة الوطنية، قيم الجمهورية وآثارها الواقعية الايجابية..) ودرء نقاط الضعف (الحكم الفردي، المنوال التنموي..). وبالمقابل، أظهر خصوم البورقيبية الرئيسيون (الإسلاميون واليساريون) تدريجيا استعدادهم لتبني قراءات اكثر هدوءا وتفهما وتقديرا للمنجز البورقيبي، معترفين بفضائله بعد نكران، ومترحّمين عليه بعد رفض.. ولم تشذّ عن هذه السيرة الا فئتان صغيرتان راديكاليتان، تستمدان مبرر وجودهما فيما يبدو من قراءة متطرّفة، سواء لجهة التقديس أو لجهة التخوين.
كانت للزعيم بورقيبة محاسن كثيرة وعيوب أيضا، ولا توجد في التاريخ الإنساني تجربة مكتملة.. حتّى الرسل والأنبياء الذين أتموا رسالاتهم أمروا من سيأتي من بعدهم من المؤمنين بضرورة التعهّد والتجديد.. واعتبروا التجديد أس من أسس الدين.. فما بالنا بالزعماء الأفذاذ مثل بورقيبة، ممن حكموا بلدانهم وشعوبهم في سياقات تاريخية وظروف موضوعية تجاوزتها الأحداث وغّيرتها المستجدات، وعاد من الضروري والصالح مراجعتها وإعادة بنائها وفقا لمتطلبات الحاضر والمستقبل.
في كتابي الأخير “المقدمة الديمقراطية.. الأسس الإصلاحية للمسار الثوري في تونس”، أشرت إلى “المقدمة البورقيبية” باعتبارها واحدة من ثلاث مفاتيح يمكن من خلالها تفسير نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. وقبل سنوات من الثورة خاطبت الإسلاميين -الذين عارضتهم قبل ان يكتشف القوم أخيرا معارضتهم- بالقول “أنهم بورقيبون حتى وان أنكروا، وذاك سرّ تميّزهم عن بقية الإسلاميين العرب”، ولكنّي مع الإقرار بفضائل البورقيبية، أدركت أيضا مكامن ضعفها وهي ليست هينة على كل حال.
لقد كان الزعيم بورقيبة رحمه الله وغفر له “آكلا عظيماً للرجال” (ترجمة ركيكة للمثل الفرنسي)، أكل جميع من سبقه من الزعماء وأنكر عليهم تضحياتهم (الثعالبي، الماطري، بن يوسف، حشّاد …الخ)، وكتب تاريخ الحركة الوطنية في نسخة فردية موغلة في تقديس الذات، ثم أكل أبنائه المخلصين والأوفياء تباعاً، واحدا تلو الآخر دون رحمة أو شفقة (بن صالح، الأدغم، نويرة، مزالي…الخ)، حتى سلّم الحكم لضابط غريب عنه، وهو الذي كان من أعظم محاسنه أبعاد العسكر ما أمكن عن الحكم والسلطة.
لقد وضع بورقيبة للدولة الوطنية المستقلة أسسا سليمة في المجمل، دولة اجتماعية ذات سيادة تخصص معظم مواردها للإنفاق على التعليم والصحة وتتبع سياسة خارجية واقعية تجمع بين الالتزام بقضايا أمتها العادلة ولا تتجاوز حدود إمكانياتها، ولكن ذلك لا يحجب عن هذه الدولة الحاجة إلى تجديد عقيدتها المترهلة ودمقرطة نظامها وإحياء طموحها نحو التقدم والتحضر وذلك من اجل استكمال استقلالها وصون قرارها والاستجابة لطموحات الأجيال الجديدة من شعبها في الكرامة والحرية والعزة ومزيد من الرقي والحضارة.

*جامعي وناشط سياسي

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى