أحداثأهم الأحداثبكل هدوءدولي

نهاية الماكرونية

بقلم / علي أنوزلا

المقصود هنا بـ “الماكرونية”، نهج الحكم الذي اتبعه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، منذ انتخابه رئيسا على فرنسا عام 2017 قادما من عالم المال والأعمال، ما مثّل آنذاك ثورةً على الأحزاب السياسية الفرنسية التقليدية التي كانت موزّعة ما بين اليمين واليسار، فجاءت “الماكرونية” نزعةً لا يمينية ولا يسارية، ليبرالية وفي الوقت نفسه، تقوم على مركزية الدولة، سلطوية ومنفتحة، مزيج من الوسطية والديغولية، نسبة إلى الزعيم الفرنسي شارل ديغول، لكنها ديغولية بدون روح. تقدّمية في القضايا الاجتماعية، ومتدخّلة على المستوى الاقتصادي، وبراغماتية على المستوى السياسي.

حملت “الماكرونية” في بدايتها آمالا كبيرة بالنسبة للفرنسيين من خلال وعودها بتحقيق النمو للاقتصاد والتقدّم لفرنسا، لكن بعد ست سنوات يبدو الواقع أكثر تشاؤما، والرؤية غير واضحة أمام الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي تعيش على وقعها البلاد منذ وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه، من ثورة السترات الصفراء إلى انتفاضة الفرنسيين ضد نظام التقاعد مرورا بأعمال الشغب الحضرية، تضاف إلى ذلك الأزمات الكبيرة التي مرّت بها البلاد من أزمة “كوفيد” إلى الحرب الأوكرانية والجفاف الناتج عن التغيّرات المناخية الكبيرة التي لا تجد لها أجوبة في السياسة البيئية للرئيس الذي أصبح فاقدا زمام المبادرة أمام أسئلة عديدة معقّدة تواجهه خلال السنوات الأربع المقبلة من ولايته الثانية في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والشرطة والعدالة.

لكن أكبر تحدٍّ يواجه الرئيس الفرنسي اليوم إعادة فرض اسم فرنسا قوة دولية عظمى، بعد أن فقدت الكثير من قوّتها ونفوذها وهيبتها حتى داخل مستعمراتها القديمة التي كانت، حتى الأمس القريب، تأتمر بأمرها وتسعى إلى طلب ودّها وحمايتها.

وعلى المستوى الداخلي، جاءت الماكرونية جوابا على الاستقطاب الذي يمزّق فرنسا بين يسار مترهل ويمين متطرّف، ووعدت بتخليص البلاد من الانقسامات الأيديولوجية التي عفا عليها الزمن، في محاولة لإنجاز ما هو أجدى وأهم، أي النهوض بالاقتصاد لإعادة بناء فرنسا قوية، لكن كل هذه الأحلام يبدو أنها تبخّرت، بعد أن وضعت السياسة نفسها البلاد أمام أخطر حالة اختلال في التوازن، منذ خسارتها أغلبيتها المطلقة داخل الجمعية الوطنية، ما أدّى إلى ظهور هشاشة الحكم وهشاشة الحاكم نفسه أمام ضربات المعارضة القوية من اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي.

لم تظهر بدايات فشل الماكرونية اليوم، وإنما حملتها معها منذ بدايتها على شكل تناقضات كبيرة هي ذاتها تلك المتأصّلة في ما تسمّى “الليبرالية الجديدة التقدّمية”، التي كان يُنظر إليها الحصن الحصين ضد الشعبوية اليمينية المتطرّفة، والجواب الشافي على الفشل الذي مُنيت به الأحزاب الليبرالية واليسارية التقليدية.

وأكبر خطأ ارتكبه ماكرون اعتقاده أن خلفيّته الاقتصادية مصرفيًا استثماريًا سابقًا، تُغنيه عن كل الانتماءات السياسية، وأن برنامجًا مؤيدًا للأعمال وخاليا من الأيديولوجيا قادر على إيجاد حلول للمشكلات التي كانت البلاد تتخبّط فيها، وأدار الحكم كما لو أنه يرأس مجلس إدارة شركة ضخمة، معتمدا على فكرةٍ تبدو ساذجة، مفادها بن تحرير الاقتصاد وتخفيف الدولة من جميع الأعباء الاجتماعية هي الطريق الأسرع لإعادة بناء قوة فرنسا العظمى.

لذلك أحاط نفسه بالخبراء والتكنوقراط ومكاتب الخبرة التي نصحته بأن الطريق إلى بناء فرنسا قوية اقتصاديا يمرّ عبر التخلي عن دولة الرفاه الاجتماعي المكلفة ماليا لميزانية البلاد، فوجد نفسَه في مواجهة اضطرابات الشارع التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، حتى عمّت البلاد فوضى عارمة، كانت آخرها اضطرابات الأحياء الهامشية والإضرابات الضخمة المعارضة لنظام التقاعد، الذي فرضه الرئيس بمرسوم جمهوري عمودي فوقي.

حمل أسلوب الحكم هذا معه التناقضات المتأصّلة في النيوليبرالية التقدّمية، بما أنه لم يكن سوى نسخة مشوّهة منها.

وسوف تظهر بوادر فشله الاقتصادي في الإصلاحات التي باشرها، ولم تؤدّ إلى ما كان مأمولا منها، وجاء أكبر تجلٍّ لفشله سياسيا في الانتخابات التشريعية أخيرا والتي شكلت هزيمة غير مستساغة للرئيس الفرنسي المتعجرف جعلته هدفا سهلا تحت رحمة الانتقادات القاسية لمعارضيه من اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي داخل البرلمان الفرنسي، لا يجد وراءه سوى حكومةٍ من التكنوقراط من أصحاب الولاءات له الذين يفتقرون إلى النفوذ السياسي اللازم لحماية أنفسهم وحمايته، بما أنه يكاد يكون بدون أتباع، لأن حزبه “الجمهورية إلى الأمام” قبل أن يغيّر إسمه إلى “النهضة”، وُجد من عدم بدون أيديولوجية يلتفّ حولها الناس، وبدون قاعدة اجتماعية حقيقية. كما أن نهجه العمودي في السلطة، والذي تجلّى على أفضل نحو من خلال إدارته الأزمات الاجتماعية التي شهدها عهده وأدارها من خلف الأبواب المغلقة، بالإضافة إلى غطرسته المُفرطة ونرجسيته السياسية البحتة وشخصيته التي ترفض تقديم أي نوعٍ من التنازلات، كلها أمور تركته معزولًا ومكشوفًا، ما يهدّد بتحويل ولايته الثانية إلى جحيم، بعد أن تحطمت كل طموحاته في الإصلاح…

لذلك المقصود في عنوان هذه المقالة بـ “نهاية الماكرونية” نهاية أسلوب الحكم العمودي للبلاد الذي اعتمده الرئيس الفرنسي طوال ولايته الأولى، عندما كان مسنودا بأغلبية مريحة داخل البرلمان. ومنذ بداية ولايته الثانية، وهو يراكم الأخطاء تلو الأخرى، حتى بات بدون رؤية واضحة، أو على الأقل الرؤية التي كان يدّعي امتلاكها لخلاص فرنسا اصطدمت بالواقع الذي لا يرتفع: الوباء، والحرب في أوكرانيا، وانقسام الشارع الفرنسي، والاضطرابات الاجتماعية الداخلية، وتراجع النفوذ الفرنسي على الساحة الدولية، فالنكسات المتتالية لسياسات ماكرون على أكثر من صعيد لا تكشف فقط عن نقاط ضعف نهجه “الماكرونية”، بل إنها تشكّك أيضًا في بقائها ذاته، لكن الأخطر من ذلك أن نهايته سوف تخلّف خاسرين كثيرين وفائزين كثيرين، وأكبر الخاسرين هم اليسار الضعيف والمنقسم، ما سيمهّد الحكم لتحالف المحافظين الجدد واليمين المتطرّف، وهو ما سيكون بمثابة المسمار الأخير في نعش النيوليبرالية التقدّمية، وبالتالي، نهاية شيء كان اسمه “الماكرونية”.

عن “العربي الجديد”

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى