أهم الأحداثمقالات رأي

في خذلان المجتمع المدني الوظيفي للديمقراطية؟

 

د. خالد شوكات


لم تشعر الكثير من منظمات المجتمع المدني بخطورة “الديكتاتورية الناشئة” إلاّ بعد اشهر من الانقلاب على الدستور والانحراف بمسار الانتقال الديمقراطي، وتحديدا عندما لوّح سعيّد بورقة وقف التمويل الأجنبي، وجرى تسريب مشروع مسودة مرسوم جديد، تنوي سكرتارية الرئيس إحلاله محل مرسوم الجمعيات الذي سنَّ على عجل سنة 2011 مباشرة بعد الثورة، ويتضمن العديد من الفصول التي تشبه نظيرتها المصرية وانتهت بقتل المجتمع المدني المصري.

هذا الفزع الذي جعل عشرات الجمعيات التونسية تتنادى الى التجمع والتشبيك دفاعا عن الحقوق والحرّيات، كان يجدر به ان يحدث عشية 25 جويلية أو على الاقل يوم 22 سبتمبر تاريخ إصدار المرسوم الذي جمّد الدستور ، أما الان فالمثل العربي الذي يقول “أكلت يوم أكل الثور الابيض” أصدق في التعبير عن هذه الشكيزوفرينيا المقيتة التي جعلت المجتمع المدني التونسي وكأنه “أكل الغلّة ولعن الملّة”، أي انه كان من اكثر الاطراف استفادة من “الانتقال الديمقراطي” سنوات الرخاء، لكنّهُ كان العنوان الاساسي لخذلان هذا المسار حينما جرى الانقلاب عليه.

في هذا السياق اذكر منظمة ما – او اكثر- جرى استثمار ملايين الدنانير في دعمها لتقوم بوظيفتها في المساهمة في النهوض بالعمل البرلماني، إلى درجة منحت فيه هذا الامتياز حصريا لكنها لم تكلّف نفسها عناء إصدار بيان واحد تنديدا باغلاق مجلس نوّاب الشعب تعسفيا، عندما ارسل الحاكم بأمره مصفّحة تمنع رئيس المجلس وأعضاؤه المنتخبين من ممارسة عملهم، فهذا الخرق السافر للدستور والانقلاب الواضح على إرادة الشعب لم يعنِ شيئاً للمجتمع المدني الوظيفي، مثلما تحرّك ساعة بدا له أن حنفية الدعم المالي الخارجي قد تغلق، دون ان يحنّ قلب المنقلب على من زمّر وهلّل ساعة الانقلاب.

هناك عدة أمثلة لهذه المنظمات المنطوية تحت مسمى المجتمع المدني، أسسها شباب تعلموا كتابة المشاريع والتقارير والحديث بالانجليزية او الفرنسية، وقدّر المانحون الأجانب أن الاستثمار فيهم باعتبارهم “جيلا مدنيا جديداً” افضل للديمقراطية الناشئة ربمّا من التعويل على “المجتمع المدني النضالي” الذي ارتبط بقضايا الديمقراطية والحرّيات وحقوق الانسان زمن الرئيسين بن علي وبورقيبة، لكن قراءة سريعة للمواقف من 25 جويلية تقود الى حقيقة مفزعة وهي ان جلُّ من تم الرهان عليهم قد تحوّلوا خلال السنوات العشر الاخيرة إلى “مجتمع مدني وظيفي” همّه الاساسي نيل اكبر قدر ممكن من الدعم لأكبر قدر ممكن من المشاريع التي لا أثر واقعي لها من جهة تجذير الثقافة الديمقراطية والتمكين للنظام الديمقراطي، وهكذا بدا الامر لبعض المانحين ممن قاموا بمراجعات تقييمية ودراسات نقدية، أن الحال طيلة عقد من الزمان بدا كما لو أن شخصاً حرث في البحر، فقد كان المأمول والواجب ان يكون المجتمع المدني المدافع الاول والاساسي عن خيار تونس الديمقراطي.

الان، وَكما أشرنا سلفا، يحاول هذا المجتمع المدني الوظيفي ان يتحرّك بعد ان جرى “تهديد مصدر رزقه” وقطع الارزاق اشدّ من قطع الاعناق كما يقال، لكن طبيعة اللحظة التاريخية قد لا تسعفه كثيرا، فهذه اللحظة تاريخية وحاسمة بالنسبة لمسار الانتقال الديمقراطي، وهي لحظة فارقة من حيث تجسيدها لأول مرة في تاريخ تونس المعاصر لمعركة واضحة المعالم بين معسكرين: “الديمقراطيون” وسواهم من شعبويين وفاشيين ومن تبعهم و والاهم ممن لديهم “قابلية للاستبداد”..إنها لحظة تقتضي من المجتمع المدني المساهمة في بناء “كتلة تاريخية” للديمقراطيين تضم كذلك جميع المدافعين عن الديمقراطية في مجال الاعلام والقضاء والاحزاب السياسية والنقابات العمالية.

لكن الوعي التاريخي وهشاشة الفكر الديمقراطي غالبا ما ستدفع هذا المجتمع المدني الوظيفي الى البحث عن حلول جزئية لمشاكله ومواصلة اتباع مسالك المناورة مع النظام حفاظا على مصالحه بهذا المعنى الضيق، حيث لا ترى بعض الجمعيات غضاضة في مراجعة القانون المنظم للجمعيات عبر مرسوم على نحو يمنع البعض ممن يصنف مقربا من طرف سياسي ما، فيما يتسامح مع البعض الاخر ممن ثبتت “حداثيته”، وهو ذات الكيل بمكيالين الذي يمارس في مجالي الاعلام والسياسة، حيث يشجّع البعض على إغلاق قنوات وحظر احزاب دون أدنى خجل.

إن هذا المجتمع المدني الوظيفي لا يهتم بخرق الرئيس الفاضح للدستور، ولا محاولته المستميتة تهميش الاحزاب السياسية، ولا تجرّئه على ضرب السلطة القضائية، وقبلها ضرب السلطة التشريعية، واحتكار جميع السلطات والزعم بانها مجرد وظائف يجب ان تكون جزءا من الرئاسة وطوع بنان الرئيس..كما لا يرى غضاضة في البحث عن إمكانية الانخراط في استفتاء او انتخابات فرض أمرهما بالقوة الصلبة بعيدا عن المعايير الدولية الخاصة بنزاهة الانتخابات وحيادية المشرفين عليها..

كل ذلك غير مهم بالنسبة لهؤلاء الذين أتت الصدف بغالبيتهم تماما كأولئك النواب الذين لم يدافعوا عن برلمانهم، او القضاة الذين لم يمانعوا في عضوية مجلس معين لهم بدل المجلس الشرعي المنتخب، والاحزاب التي هللت لانقلاب وقد أوجدتها الديمقراطية من عدم.

تونس ستغلق قوس الانقلاب عاجلا ام اجلا، وهذه لحظة تمحيص واختبار ونضال، ومن لم يمكنه وعيه من ادراك هذه الحقيقة الساطعة فسيجد نفسه في موقع الثور الاسود حتماً..أما من خَبِرَ النضال من اجل الديمقراطية زمن الاستبداد فلن يرهبه الامر زمن الانقلاب.

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى