أهم الأحداثالمشهد السياسيبكل هدوءوطنية

تحليل / جلسة الكونغرس حول تونس: بين طريق العقوبات… والخيار الدبلوماسي


بقلم / صالح عطية

تعقد لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأميركي مساء اليوم، جلسة استماع إلى عدد من الخبراء، حول الوضع السياسي والديمقراطي في تونس، في ضوء التطورات الإقليمية الراهنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا..
الأنظار التونسية متجهة إلى هذا الاجتماع / الجلسة، وسط رغبة البعض في أن تنتهي إلى إعلان جملة من العقوبات الاقتصادية على تونس، كموقف ضدّ المنحى “الانقلابي” الذي تعرفه البلاد منذ 25 جويلية الماضي، فيما ترى أوساط أخرى أنّ الجلسة لن تنتهي إلى الإضرار بالعلاقات التونسية الأميركية..

ولا شكّ أنّ الطرفان، تتحكم فيهما تقديرات سياسية مختلفة، بل متناقضة، وهما يمثلان اليوم المعسكران المتجاذبان إلى حدّ الصراع بينهما في تونس، وكل طرف يتربص بالطرف الآخر.

ووفق المعلومات التي توصلنا إليها من مصادر قريبة من دائرة القرار الأميركي، فإنّ جلسة الكونغرس، التي ستناقش الوضع التونسي، في مختلف تمظهراته، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وفي علاقة بالإقليم، قد تستبعد إمكانية فرض عقوبات على تونس، على الرغم من تحفظ الإدارة الأميركية، وكذلك الحزبان الممثلان في مجلس النواب الأميركي: الديمقراطي والجمهوري، على ما يجري في تونس.

وهناك جملة من المؤشرات والمعطيات التي تعزز وجهة النظر هذه:

1 ــ الرسائل الجزائرية الأخيرة، التي جاءت على لسان الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، والتي حسم من خلالها الوجهة الجزائرية في علاقة بالوضع التونسي، حيث رفض عبد المجيد تبون، أي شكل من التدخل الخارجي في الشأن التونسي، مبرزا أنّه تحادث مع الأوروبيين، وأخبرهم بموقف الجزائر.. إلى جانب تأكيد الرئيس تبون، على استعداد الجزائر قبول راشد الغنوشي، كرئيس للبرلمان، حيث بإمكانه مقابلة رئيس المجلس الشعبي الجزائري، وبرلمانيين جزائريين، في إشارة إلى عدم استعداد القصر والمؤسسة العسكرية الجزائرية، التورط في الاصطفاف خلف هذا الطرف دون ذاك، أو في أي تجاذب بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان.

وهذا معناه، أنه من الناحية الإقليمية، والبوابة الجزائرية أهمها، فإنّ الرسالة، لا تدعم أي نوع من القطيعة مع “نظام قيس سعيّد”، فضلا عن استعداء تونس اليوم..

2 ــ الجلسة التي التأمت منذ فترة في مصر بين الرئيس عبد الفتاح السيسي، وجنرالين، واحد من البنتاغون، والثاني من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والتي طلب فيها السيسي، عدم الضغط على الرئيس التونسي، خاصة فيما يتعلق بالتطبيع وعودة البرلمان إلى النشاط، لأنّ ذلك سيفقده مصداقيته شعبيا، وسيجعل الخطوات التي اتخذت إلى حدّ الآن، في مهب الريح، بما قد يؤجج الصراعات بين أنصاره ومعارضيه، وفق التقدير المصري، ويزيد في إرباك الحالة التونسية..

3 ــ ما رشح عن مقابلة السفير الأميركي لوزير الخارجية التونسي، عثمان الجرندي، حيث دعاه قبيل “المسيرة المناهضة للانقلاب” الأحد المنقضي، إلى إعلان جملة من القرارات العملية لإزالة حالة الاحتقان في تونس، من أجل “تليين” جلسة الكونغرس، وهو ما تمخض عنه إعلان قرارات رفع الإقامة الجبرية عن عدد من المسؤولين والنشطاء والحقوقيين، وإطلاق سراح نائبين كانا رهن الإيقاف، وإعلان تشكيل الحكومة التونسية الجديدة، بقيادة نجلاء بودن، وإعلان نوايا الرئيس قيس سعيّد، إجراء حوار وطني، وهي تقريبا التوصيات التي حرصت الولايات المتحدة، أن تقدمها في عديد المرات إلى “قصر قرطاج” منذ فترة، دون أن تجد تفاعلا رئاسيا معها.

وبالطبع، شكّلت هذه القرارات ــ في نظرنا ــ مسوغا غير مباشر لإقناع قسم من الإدارة الأميركية، ومن نواب الكونغرس، بأنّ التصعيد مع رئيس الجمهورية، قد لا يكون له جدوى، طالما أنّ الأمور تجري حلحلتها في كنف ما ترغب فيه الولايات المتحدة، أي وضع حدّ للغموض الرئاسي، الذي أزعج الأميركيين خلال العامين الماضيين، وتشكيل الحكومة، وتقديم تصور عن أولوياتها في علاقة بالمنشط الاقتصادي والاجتماعي..

وهنا يأتي البلاغ الصادر عن الخارجية الأميركية أمس، والذي تم خلاله الترحيب بتشكيل الحكومة، كمؤشر على بداية حلحلة الوضع التونسي، ولكنه مؤشر أيضا، على أنّ التصعيد مع الرئيس قيس سعيّد، لم يعد ضمن الخيارات الأميركية.

4 ــ اشتغال اللوبي الصهيوني منذ فترة، على عدم الذهاب بعيدا في الحالة التونسية، من خلال تخويف الإدارة الأميركية، بأنّ أي إجراء ضدّ قيس سعيّد والخطوات التي اتخذها، والتي تمثل مصدر قلق وانزعاج الأميركيين، سيكون في مصلحة عودة “الإسلام السياسي” إلى الحكم، بعد 10 سنوات من الفشل في إدارة الدولة، وفق التقدير الإسرائيلي، الذي يجد دعما مصريا وإماراتيا وسعوديا واضحا، كما يجد مساندة فرنسية واضحة.

الاستحقاق الديمقراطي
غير أنّ التقدير الأميركي، لن يتوقف عند هذا الأمر، على اعتبار أنّ استمرار تجميد البرلمان، وما يعتبره محللون أميركيون، “انحرافا” بالسلطة في تونس نحو استبداد جديد، من خلال مضمون الأمر الرئاسي عدد 117، الذي فوض الرئيس قيس سعيّد لنفسه بموجبه، جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وغيرها، وفق ما يقول هؤلاء المحللين، والانتهاكات المتتالية لحقوق الإنسان والحريات، قبل أن يضاف إليها، إرادة “تهديم” السلطة المحلية، التي يعتبرها الغرب، حجر الزاوية في العملية الديمقراطية ونهاية الحكم المركزي التسلطي، كل ذلك، لا يمنح اطمئنانا واضحا للولايات المتحدة، ولا للنواب الأميركيين.

يضاف إلى ذلك، تساؤلات النواب الديمقراطيين والجمهوريين، حول دور المؤسسة الأمنية في أي حالة تدهور أمني في البلاد، نتيجة الاحتجاجات التي يتوقع أن تتصاعد وتيرتها في المرحلة المقبلة، على خلفية الوضع الاجتماعي، والحالة الاقتصادية المتدهورة، إلى جانب تنامي المعارضة لرئيس الجمهورية، واتساع دائرة المناهضين “للانقلاب”، بما قد يؤدي إلى تبلور معارضة صلب المؤسسة الأمنية، المعروفة بكونها أقل انضباطا من الجيش التونسي، سيما في ظل وجود بعض قيادات فيها راغبة في لعب دور قيادي سياسي، بما يمكن ــ وفق التقدير الأميركي ــ أن يعزز حالة من الانقسام صلب هذه المؤسسة، ربما أدّى إلى انفلات، قد يساهم في عودة الإرهاب للبلاد، خصوصا مع احتمالية وجود المجموعات الإرهابية على التخوم التونسية، سواء من جانب ليبيا، أو الجزائر.. والمخاوف الأميركية شديدة، من أن يؤدي كل ذلك، إلى اختلال في الاستقرار السياسي، قد يعصف بكامل التجربة الديمقراطية، التي ما تزال الولايات المتحدة تراهن عليها، بما يفسر جلسة الكونغرس اليوم.

وهنا، تخشى الإدارة الأميركية، وقيادات البنتاغون بالأساس، من الاحتمالية الأنشط، وهي تدخل المؤسسة العسكرية بشكل أوضح في المشهد التونسي، الأمر الذي يتخوف منه الأميركان، ويمثل حالة إزعاج للمؤسسة التشريعية في الولايات المتحدة..

ما يقلق الجانب الأميركي حقيقة، وهو ما يمكن استنتاجه من تصريحات المسؤولين في واشنطن، أو من خلال الكتابات السياسية والإعلامية في الصحف الأميركية، النقدية للمسار “القيسي” منذ فترة، هو التوقيت الأقصى لبقاء المؤسسة العسكرية في تونس، على حالة إسناد للرئيس قيس سعيّد، ومدى إخلاصها المستمر له، وما هو السقف الزمني لهذا الإسناد، وشروطه السياسية وكلفته الاقتصادية..

لكنّ الإدارة الأميركية، وروافدها العسكرية والإستخباراتية والتشريعية، أشدّ خشية من أن يؤدي تدخل الجيش في المشهد، عبر تزعم السلطة، إلى النكوص عن التجربة الديمقراطية، بما تعنيه من مؤسسات تمثيلية منتخبة، وزخم شعبي، ورأي عام حر، وقضاء مستقل، وماكينة سلط تشتغل باستقلالية تامة (مبدأ التفريق بين السلط)، وهي من المعايير الديمقراطية الأساسية، ليس في الثقافة الأميركية فحسب، وإنما أيضا في الممارسة العملية، التي تعتبرها الولايات المتحدة، محددا لعلاقات شفافة، وناجزة مع الجانب التونسي، بعيدا عن أي هيمنة، يدرك الأميركيون، أنها غير مقبولة، في بلد ما تزال المشاعر ضدّ “الغرب المهيمن”، متمركزة في وعيه الجمعي، فضلا عن وعي نخبه العلمانية والاجتماعية والسياسية، الرافضة لهكذا تدخل خارجي، أميركي بالأساس، أكثر من السياق الفرنسي ذاته.

فرنسا و”الورقة التونسية”
وتدرك واشنطن جيدا، أنّ الملف التونسي، ورقة بيد باريس، وبإمكانها ممارسة ضغوط على الرئيس الفرنسي، الموجود تحت الكماشة الأميركية حاليا، بحيث يدفع الرئيس التونسي، إلى تعديل مواقفه في علاقة بالمؤسسات الديمقراطية والدستورية، وهو الذي تربطه علاقة وطيدة به، لكن واشنطن تعلم علم اليقين، أنّ ذلك سيتتسبب في حرج، قد يربك وضعه السياسي الداخلي في فرنسا، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية (بداية العام القادم)، سيما وأنّ اليمين الفرنسي، الصاعد في استطلاعات الرأي وعمليات سبر الآراء، يتربص به، ويمكن أن يكون الملف التونسي، ورقة انتخابية مهمة، لإزاحته من الحكم، وهو ما قد يؤثر على العلاقات الفرنسية القادمة، خاصة وأنّ اليمين المتطرف، يتوفر على ارتباطات سياسية واستراتيجية خارجية، مع الصين وروسيا، بما قد يضر بالمصالح الإستراتيجية الأميركية مع فرنسا لاحقا.

إنّ ممارسة الضغوط على الرئيس ماكرون، باتت ــ في التقدير الأميركي ــ عملية غير ذات جدوى، لأنها ستؤدي إلى مزيد تهرئة رئيس فرنسا، بما يضعف دوره هنا في تونس، ويزيد في تقوية خصوم قيس سعيّد، وهو ما قد يؤدي إلى استمرار الإرباك في الوضع التونسي. ومن هنا استعاضت واشنطن عن استخدام الدور الفرنسي في الضغط على سعيّد، دون أن يعني ذلك، القبول بالكثير من أقواله وأفعاله، المناقضة للقيم الديمقراطية..

ومن هذه الزاوية، ينتظر أن تناقش جلسة الكونغرس، عددا من الخيارات، لعل أهمها:

**
التغيير الراديكالي في البلاد، وهو أمر يبدو مستبعدا في الوقت الراهن، بحكم هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وحتى السياسي، ووجود رفض جزائري لأي “تدخل سافر”، قد يغيّر اتجاهات المعادلة التونسية.

** توخي الأسلوب الدبلوماسي، وضغط الدوائر الأميركية، من خارج الإدارة الأميركية، إلى جانب الأوروبيين، الممتعضين مما يجري سياسيا، في بلد منشأ الربيع العربي، الذي صرح مسؤولون أميركيون، أنهم أنفقوا من أجله مئات الآلاف من مليارات الدولارات، وليسو مستعدين للتفريط فيه، لأي سبب، بل على العكس دعمه، ضمن السياق المحلي وخصوصيته.

** إقناع الرئيس التونسي، عبر كل الطرق الدبلوماسية والسياسية، بضرورة الذهاب في اتجاه الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، بالتوازي مع عودة المؤسسات الديمقراطية والدستورية، واستكمال المسار الانتقالي الديمقراطي، دون أي إقصاء، لأي طرف سياسي أو اجتماعي، لتجاوز فشل السنوات العشر الماضية، من الناحية الاقتصادية بوجه خاص..

وسيتيح الموقف الأميركي، ونتائج جلسة الاستماع، فتح ثقبة في جدار التمويلات والمساعدات الخارجية، بما يمكن أن يمثله عدم فرض عقوبات على تونس، من “ضوء أخضر” أميركي غير معلن، للسعودية والإمارات وغيرهما، بتقديم “ثمن” لموقفهما المساند لخطوات قيس سعيّد، منذ الخامس والعشرين من جويلية الماضي..

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى