أهم الأحداثمقالات رأي

الحراك الشعبي وحلم التغيير

   بقلم / محمد كريشان**

وكأن اللبنانيين لا يكفيهم إحياء الذكرى الثالثة لانفجار مرفأ بيروت الرهيب وتعثر الوصول إلى حقيقته، هاهم بعد أسابيع قليلة سيكونون على موعد مع الذكرى الرابعة لموجة الغضب الشعبية التي انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر حين خرجوا بالآلاف مطالبين بالتغيير وبحكم غير طائفي ومندّدين بفساد النخبة الحاكمة.

كان الشعار الأبرز هو «كلن يعني كلن» يعني ضرورة رحيل جميع هؤلاء السياسيين الذين ملّوا من تكتلاتهم الطائفية المغرقة في الزبائنية والفساد. كان اللبنانيون وقتها صفا واحدا رأى أن البلاد لا يمكن أن تنهض إن هي ظلت مكبّلة بهذه الطبقة السياسية، لكن احتجاجاتهم الواعدة تلك تبدو اليوم أشبه بالحلم الذي تبخر ما أغرق عموم اللبنانيين في حالة من اليأس الشديد من إمكانية التغيير.

الجزائر بدورها عرفت قبل أكثر من ثلاث سنوات ونصف حراكا شعبيا واسعا، ففي 22 فبراير/شباط 2019، هبت جموع غفيرة للتظاهر مطالبة بالتغيير السياسي وبالأساس رفض ترشح الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة. استمرت المظاهرات العارمة لأسابيع عديدة وبرقي في التنظيم والانضباط أثار إعجاب العالم. تجاوزت التظاهرات بسرعة هدفها الأول إلى المطالبة بالديمقراطية والتغيير الجذري للنظام السياسي وإصلاحات حقيقية وجوهرية تمس القضاء والإعلام ومحاربة الفساد ومحاسبة رموزه.

انتهت التحركات بأنصاف انتصارات وأنصاف خيبات، فهي وإن نجحت في عدم التجديد لبوتفليقة وإجراء إصلاحات سياسية شملت الدستور وهيئة الانتخابات وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية جديدة ومحاسبة بعض رموز «العصابة» كما سميت وقتها، إلا أنها لم تنجح في إعادة صياغة كاملة للمشهد السياسي، كما لم تنجح في إبعاد هيمنة الجيش عن الدولة، فضلا عن أن المحاسبة لم تشمل الجميع ولم تتسم بالشفافية التي أرادها المتظاهرون.

ولعل ما جرى في النهاية هو ما عبّر عنه الرئيس تبّون مرة بالقول، خلال لقائه مع الجالية الجزائرية في قطر في شباط/ فبراير العام الماضي، إن «كل هذه المنجزات السياسية التي ساهمت في الاستقرار وحماية البلاد من أي انفلات، تأكيد لالتزامه بتحقيق المطالب الديمقراطية للحراك. لكنها الديمقراطية التي لا تقود إلى الفوضى». في إشارة ضمنية إلى ما شهدته بعض الدول العربية وتلميحا إلى عدم رغبة الجزائريين في العودة إلى سنوات العنف الدامي خلال عشرية كاملة هي الأخيرة من القرن الماضي.

أما السودان فهو في ورطة حقيقية أوقع العسكريون البلاد فيها إلى أن وصلت اليوم إلى ما نراه من اقتتال بين الجيش وقوات «الدعم السريع» بعد أن سمح الأول بنشأة وتغول الثانية حتى تمرّدت عليه.

خرج الناس في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018 ضد حكم البشير الذي استمر ثلاثة عقود وأغرق البلاد في مشاكل لا حصر لها، لكن هذه الجماهير التي نجحت في إسقاط الرئيس في 11 أبريل/نيسان 2019 لم تهنأ بمكسبها هذا إذ سرعان ما تصدّر الجيش مرة أخرى المشهد، وبدا كمن يساير التوق العام للحكم المدني لكنه لم يطق على ذلك صبرا فأجهض المرحلة الانتقالية بانقلابه على حكومة عبد الله حمدوك في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ومنذ ذلك التاريخ والبلاد في دوامة إلى حد الاقتتال الداخلي الحالي.

لا شيء يربط بين هذه التحركات في بعض الدول العربية، في مرحلة ما بعد «الربيع العربي» سوى رغبة الجميع في أن يعيشوا في بلد أفضل يسوده القانون وتحترم فيه كرامة الناس ويوفر لها الخدمات الضرورية ويعمل على النهوض الدائم بأوضاعها المعيشية، بالتوازي مع ضمان الحريات الأساسية من تعبير وإعلام وغير ذلك، مع قدرة على محاسبة المسؤولين ومنع فسادهم لكي لا يكونوا يوما واحدا فوق القانون وأكبر من البلد، خاصة وأن هذا العالم الذي تحوّل، كما يقال، إلى قرية صغيرة مكّن الجميع من معرفة وإدراك كيف تعيش بقية الشعوب، وبالتالي لم تعد للناس قدرة على تحمّل أن يكونوا دائما الأدنى من غيرهم في كل المجالات.


لا فائدة هنا في الحديث عن تطلعات الناس في الديمقراطية وحكم القانون التي وئدت، بالدم أحيانا وكل على طريقته، في كل من سوريا واليمن ومصر وليبيا وتونس، لكن ما يجب ألا ننساه أبدا هو أن إخماد طموحات الناس وإجهاض أحلامها، ليس هو الحل حتى وإن أفرز «استقرارا» ما، وأن ما يبقى في نفوس هؤلاء الناس من مرارات نتيجة ذلك، قد يؤدي بعد سنوات إلى تعبيرات غير سلمية لا سمح الله.

مآل كهذا سيعفّن الجروح أكثر، ولن يزيد الأوضاع الحالية سوى سوء على سوء أكبر، رغم «الهدوء» الحالي فهو هدوء خادع.

** كاتب وإعلامي تونسي

المصدر: القدس العربي

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى