أهم الأحداثالمشهد السياسيمقالات رأيوطنية

25 جويلية: جمهورية مغدورة… وذكرى حزينة..

 

بقلم / محمد القوماني**

 

تحلّ الذكرى السادسة والستون لإعلان النظام الجمهوري الذي اختاره غداة الاستقلال أعضاء “المجلس القومي التأسيسي”، وأعلنوه في جوّ احتفالي بهيج مساء الخميس 25 جويلية 1957، “تدعيما لأركان استقلال الدولة وسيادة الشعب وسيرا في طريق النظام الديمقراطي، الذي هو وجهة المجلس في تسطير الدستور”، كما جاء  في نصّ قرار إعلان الجمهورية. فأين نحن من تحقيق هذه التطلّعات المعبّر عنها منذ نصف قرن ونيف؟ وهل بقي معنى أصلا لعيد الجمهورية بعد الغدر بها قبل ثورة 17/14 وبعدها؟ وبعد ما اقترن بتاريخ 25 جويلية من أحزان الاغتيال السياسي حسّا ومعنى؟

يمكن القول إجمالا أن المتن الأصلي لدستور غرة جوان 1959 جاء مستلهما لأهم مبادئ الجمهورية وأُسس النظام الديمقراطي. فقد نصّ على أنّ الشعب التونسي هو صاحب السيادة. وأقرّ أهم الحريات الفردية والعامة. وفصل بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية. وضمن حق الترشح للمناصب العامة، بما في ذلك رئاسة الجمهورية والتداول عليها عبر نظام انتخابي عام حر ومباشر وسري، وعبر تحديد دورات الرئاسة. وهذا الإجمال لا يتجاهل ما تضمّنه دستور 59 من نواقص عديدة أهمها تقييد ممارسة الحريات والحقوق بعبارات عامة مقصودة تحيل على القانون، والاختلال بين السلطات وعدم إخضاع رئيس الجمهورية والحكومة عامة للمراقبة والمساءلة، وانعدام آلية تضمن دستورية القوانين، وقصور الفصول المنظمة للسلطة القضائية عن ضمان استقلال هذه السلطة العامة.

السياق البورقيبي
لكن للأسف الشديد، سرعان ما غُدرت الجمهورية في بلادنا، وخابت آمال أعضاء المجلس القومي التأسيسي وكل التونسيين الذين انتخبوهم، حيث تم استبدال مبدأ التداول على الرئاسة، وهو من صميم روح الجمهورية، بتشريع الرئاسة مدى الحياة.

إذ قبل انقضاء الولاية الثالثة للرئيس الأوّل الحبيب بورقيبة عدّل “مجلس الأمّة” سنة 1975 الفصل 40 من دستور 59، وأضاف إليه الفقرة التالية “وبصفة استثنائية واعتبارا للخدمات الجليلة التي قدمها المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة للشعب التونسي، إذ حرّره من ربقة الاستعمار وجعل منه أمّة موحّدة ودولة مستقلة عصرية كاملة السيادة، يعلن مجلس الأمّة إسناد رئاسة الجمهورية مدى الحياة إلى الرئيس الحبيب بورقيبة”. وبهذا القرار سيّء الذكر، تمّ اغتيال الجمهورية حقّا على يد مؤسسها.
وفقد الدستور روحه، ورزحت تونس تحت حكم استبدادي فردي، ونظام سياسي ليس له من الجمهورية سوى الإسم.

انقلاب بن علي
ولمّا مرض الرئيس بورقيبىة، وطالت شيخوخته، وصار التونسيون يتندّرون بعجزه، وكادت البلاد تنزلق إلى المجهول، جاء “تغيير 7 نوفمبر 1987” (انقلاب طبّي) معلنا إزاحة الرئيس بورقيبة ومبشّرا بإنهاء الرئاسة مدى الحياة وواعدا التونسيين بنظام سياسي يليق بوعيهم وتطوّرهم. تنفّس التونسيون الصعداء وتطلعوا غداة ذلك إلى إصلاحات سياسية تحقّق آمالهم في الديمقراطية وكان من أهم القرارات المعلنة بعد التغيير، ذات الصلة بموضوعنا، القانون الدستوري عدد 88 المؤرخ في 25 جويلية 1988 والمتعلق بتنقيح الدستور. ومن أهم ما جاء فيه إلغاء الفقرة المتّصلة بالرئاسة مدى الحياة بالفصل 40 والتنصيص في الفصل 39 على أنه “يجوز لرئيس الجمهورية أن يجدّد ترشّحه مرتين متتاليتين”.

لكن للأسف الشديد مرة أخرى، وقبل نهاية الولاية الثالثة والأخيرة للرئيس الثاني زين العابدين بن علي، اقترحت الحكومة “إصلاحا جذريا” واسعا للدستور، لاقى معارضة شديدة من أحزاب المعارضة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئات وشخصيات عديدة، إذ اعتبروه معاكسا لمطالبهم في إصلاح الدستور. وأقرّ البرلمان الواقع تحت السيطرة الكاملة لحزب التجمع الدستوري الحاكم،  تلك التعديلات وتمّت تزكيتها في استفتاء نظّم للغرض يوم 26 ماي 2002. وقد ألغت التعديلات الجديدة للدستور تقييد ولايات رئيس الجمهورية بالفصل 39 وجعلتها قابلة للتجديد دون تحديد، وأضافت قيودا جديدة على الترشّح لهذا المنصب، لاستبعاد المنافسين… هذا فضلا عن الحصانة الاستثنائية والسلطات الواسعة جدّا التي أعطتها التعديلات الجديدة لرئيس الجمهورية على حساب السلطتين التشريعية والقضائية.


وبذلك انتكس النظام الجمهوري مجدّدا وخابت آمال أجيال الكفاح التحريري والاستقلال في التداول السلمي على الحكم ببلادنا. ويبقى أن نتساءل بعد ذلك  عن معنى الجمهورية في ظلّ انتخابات معطّلة فعليّا أو لا تمثّل رهانا تنافسيا حقيقيا.

مرحلة الثورة.. ودستور 2014
منحت ثورة 17/14 التونسيين فرصة تنظيم انتخابات حرة وتعددية وشفافة لأول مرة في 23 أكتوبر2011. ولم يكن خافيا أنّ النظام الانتخابي للمجلس الوطني التأسيسي الذي تمّ انتخابه،أعطى فرصة لأغلب الطيف السياسي والفكري الذي شكّل المعارضة على امتداد فترة حكمي بورقيبة وبن علي، ليكون ممثّلا في كتابة دستور الثورة.

ورغم الخلافات المسجّلة والتجاذبات التي صاحبت التأسيس، فقد كان التوافق واسعا، يقارب الإجماع، في التصويت على الدستور في 27 جانفي 2014. وكانت بصمة المناهضين للاستبداد والحكم الفردي الذي عانت منه تونس، واضحة في الحرص على تثبيت الحقوق والحريات في الباب الثاني، وتوزيع مراكز السلطة بين قرطاج وباردو والقصبة في البابين الثالث والرابع، وجعل القضاء سلطة مستقلة في الباب الخامس، وتخصيص الباب السادس للهيئات الدستورية المستقلة للرقابة، وإقرار اللامركزية في الحكم وتخصيص الباب السابع للسلطة المحلية، مع ضمان التنافس على رئاسة الجمهورية والتداول عليها بالطبع.

وقد بيّنت التجربة أنّ النظام السياسي الهجين (شبه البرلماني) في دستور الجمهورية الثانية، الذي قُدّ في بعض جوانبه على مقاس فرضيات ذهنية للحكم آنذاك، هو نظام غير مناسب ولا يخلو من عيوب. وأنّ دستور الثورة ظلّ معطّلا في بعض أبوابه وفصوله نحو 7 سنوات بعد وضعه حيز التنفيذ. وأنّ جزءا من الأزمة السياسية وحالة الانغلاق التي آلت إليها البلاد تعود إلى جوانب دستورية، وإلى نظام انتخابي لم يعد مناسبا، وإلى رغبة داخلية وإقليمية في إقرار نظام رئاسي مجدّدا. وهذا ما يفسّر بعض التأييد الذي لاقته الإجراءات الاستثنائية مساء 25 جويلية 2021، التي تغطّت بالفصل 80 من دستور 2014، قبل فسح الطريق لإلغائه تماما واستبداله بدستور فردي وضعه فيس سعيد نفسه، ولم ينجح في حشد ما يكفي من الناخبين لتزكيته في استفتاء 25 جويلية 2022، الذي قاطعته المعارضة  وشارك فيه ثلث الناخبين فقط، بما لم يمنحه صفة العقد الاجتماعي.

لم تعزّز عشرية الانتقال الديمقراطي أركان الجمهورية، وعرفت خلالها مؤسسات الدولة حالة من الضعف والترذيل. لكن الغدر الكبير بالجمهورية تمّ بانقلاب  الرئيس قيس سعيد على مؤسسات الجمهورية في ذكرى تأسيسها، وخاصة برلمانها المنتخب من الشعب، ثم تقويض كل أركان الانتقال الديمقراطي لاحقا. وكان الغدر المؤلم والأشدّ بتأييد طيف “ديمقراطي” واسع للانقلاب، والاستثمار في الشمانة والترذيل الإعلامي للمؤسسات.

سعيّد.. والغدر بالديمقراطية
حصل الغدر بالديمقراطية والجمهورية من منظمات رباعي الحوار الوطني بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، ومن طيف هام من جمعيات المجتمع المدني التي نشطت خلال العشرية باسم “دعم التجربة الديمقراطية”، ومن مؤسسات إعلامية وأحزاب سياسية وشخصيات عامة عديدة. ولم تؤثّر التراجعات اللاحقة وتغيير مواقف البعض من الانقلاب في مضيّ مسار 25 جويلية نحو أهدافه في تقويض منظومة عشرية الانتقال الديمقراطي وتوسّع الملاحقات السياسية والتضييق على الحقوق والحريات التي تضرر منها الجميع تقريبا.

وبذلك كان الغدر بالجمهورية الثانية واغتيال روحها وعناوينها في وقت وجيز مؤشرا على هشاشة البناء بعد الثورة.بما يبعث عل تساؤلات عميقة حول مستقبل الديمقراطية في تونس.

إذا أضفنا للاغتيال السياسي المعنوي للجمهورية الأولى والثانية، ارتباط تاريخ 25 جويلية بذكريات مؤلمة وحزينة. ومنها الاغتيال الحسّي للنائب بالبرلمان والشخصية السياسية الشهيد محمد البراهمي رحمه الله تعالى في 25 جويلية 2013. ورحيل أول رئيس منتخب من الشعب بعد الثورة، المرحوم الباجي قايد السبسي يوم 25 جويلية 2019، قبل استكمال عهدته الأولى. وانقلاب الرئيس قيس سعيد مساء 25 جويلية 2021 على عشرية الانتقال الديمقراطي. وإلغاء دستور الثورة في 25 جويلية 2022 والعودة بالبلاد إلى الحكم الفردي المطلق.

وإذا استحضرنا المخاطر المحدقة ببلادنا في هذه الفترة بعد استفحال الأزمة المركّبة والمتراكمة والمعقّدة، وبلوغ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مستويات غير مسبوقة، حتّى باتت تونس من الدول المرشّحة للانهيار والفوضى في تقارير استراتيجية دولية مهمة. ولكل هذه الاعتبارات وغيرها مما لا يتّسع له المجال، لا نردّد فقط قول المتنبي “عيد بأيّة حال عدت يا عيد”، بل  نقول لا يحقّ لنا أصلا الحديث عن عيد  تونسي في 25 جويلية..

** محمد القوماني (ناشط سياسي ونائب سابق بالبرلمان)

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى