أهم الأحداثالمشهد السياسيمقالات رأيوطنية

مستقبل الحركة الديمقراطية في تونس


بقلم / زهيّر إسماعيل

 

الحركة الديمقراطية عنوان سياسي بدأ بالظهور بعد سنة ونصف عن المبادرة المواطنية التي أطلقها “مواطنون ضد الانقلاب” في مواجهة انقلاب 25 جويلية/ يوليو 2021 ليستقطب طيفًا سياسيًا واسعًا هو مجموع القوى السياسية والحزبية والمبادرات المواطنية والشخصيات الوطنية الرافضة للانقلاب على الدستور والديمقراطية.

وقد كان لاعتقالات شهر فيفري/ شباط الماضي التي استهدفت قيادات سياسية وحزبية مناهضة للانقلاب، دور في تبلور ملامح الحركة الديمقراطية وارتسام حدودها السياسية.

ولعلّ السؤال الأكثر إلحاحًا هو المتعلّق بالحركة الديمقراطية من زاوية مكوناتها والمراحل التي قطعتها على طريق استعادة المسار الديمقراطي ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها.

يمكن تبيّن ثلاث مراحل في مسيرة الحركة الديمقراطية هي: مرحلة المقاومة الميدانية ومرحلة بناء الشرط السياسي ومرحلة العرض السياسي وبناء البديل الديمقراطي.

المقاومة الميدانية
لا يمكن الحديث عن ردة فعل ميدانية على بيان رقم 1 الذي تلاه قيس سعيّد باستثناء وقفة رئيس البرلمان ونائبته الأولى مع قلة من النواب عشية 25 جويلية/ يوليو 2021 في مواجهة دبابة أغلقت باب البرلمان. وبأقل أهمية ما عرفه محيط البرلمان يوم 26 جويلية/ يوليو صباحًا من مناوشات بين قلّة من النواب وبعض من المجموعات مجهولة الهوية. وهي جهات لا يمكن تكوين فكرة عنها إلاّ من خلال فعلها العنيف الموجّه إلى المدافعين عن البرلمان وبما ترفعه من شعارات تكشف عن منحى بلطجي ميليشياوي واضح.

غير أنّه لا بدّ من الإشارة إلى الوقفة التي أطلقها بعض الشبيبة من أمام المسرح تضامنًا مع النائب الموقوف يومها ياسين العياري. وهي الوقفة التي مهّدت للحراك المواطني الذي انطلق يوم 18 سبتمبر/ أيلول مع مبادرة “مواطنون ضدّ الانقلاب”. ومع هذا التاريخ يمكن الحديث عن انطلاق مرحلة المقاومة الميدانية. وقد عرفت هذه الحركة توسعًا مطّردًا ولاقت قبولًا شعبيًا واسعًا. وهي التجربة التي ضمّت ثلة من المناضلين والنشطاء السياسيين جمع بينهم الدفاع عن شروط الديمقراطية والتوجه النقدي الجذري لعشرية الانتقال.

منذ البداية، ارتسم العنوان الأبرز والخط السياسي لهذه المبادرة المواطنية ما فوق حزبية. وقوامه أن الانقلاب يقاوم ولا يعارض. ولم يكن يخفى على قيادة “مواطنون ضدّ الانقلاب” أنّ وصف حركة 25 جويلية/ يوليو بأنها انقلاب على النظام السياسي الجديد شبه البرلماني، يستدعي تحرير المؤسسة الأصلية فيه وهي البرلمان. ولكن لم تتوفّر شروط المقاومة المطلوبة في المستويين السياسي والحزبي. فالشعب الذي لم ينزل بالآلاف ابتهاجًا بالانقلاب على الديمقراطية كما تدّعي سلطة الانقلاب وإعلامها، لم يخرج أيضًا دفاعًا عن هذه الديمقراطية المغدورة.

ومع ذلك، فقد أمكن للكفاح الميداني المتوسع باطّراد أن يحقّق في وقت وجيز هدفين سياسيين مهمّين، أولهما دحض سردية الانقلاب في التفويض الشعبي فظهرت سلطة الانقلاب بلا شارع في مقابل شارع ديمقراطي يتوسّع باتجاه الجهات. مع كل ما يعنيه هذا التمدد من إمكانية الانفتاح على الشوارع الأخرى المجاورة.

وثاني هذين الهدفين خلخلة عنوان “تصحيح المسار” الذي رفعه الانقلاب لتبرير إيقاف مسار الانتقال. وقد نجح الحراك المواطني مع فعاليات إضراب الجوع التي استقطبت قسمًا هامًا من النخبة السياسية والأكاديمية والحقوقية ومن نخب الدولة في أن يقنع بأن حقيقة الصراع إنما هي بين الانقلاب والديمقراطية، رغم محاولات سلطة الانقلاب بإصرارها على تغيير العنوان.

بناء الشرط السياسي
كان لقيادة مواطنون ضد الانقلاب وعي بحقيقة الانقسام الذي تعرفه النخبة السياسية وهو انقسام ذو روافد إيديولوجية وهووية حفّزته التجاذبات السياسية في عشرية الانتقال المتعثرة. وكان له دور حاسم في غياب الإجماع على بناء الديمقراطية ورفض الانقلاب على مسارها.

في هذا المزاج الذهني العام عند النخبة، يفهم تأخّر ردة الفعل الميدانية على حركة الانقلاب وانطلاق جدل قانوني دستوري لأكثر من خمسين يومًا حول طبيعة ما حدث هل هو انقلاب أم عملية تصحيح.

ولم يكن الوضع أفضل في مستوى النخبة السياسية، فكثير من الأحزاب التي تحمل الصفة الديمقراطية في اسمها وهويتها السياسية إمّا أنّها أعلنت مسادنتها المطلقة للانقلاب انسجامًا مع هويتها الوظيفية وتراثها في دعم الاستبداد النوفمبري، أو أنّها كانت من القوى الوظيفية التي مهّدت لقيامه. ويوم تلا بيانه الأول، كان أقصى ما يمكن أن تقوله هو أنّ منحاه الانقلابي على صريح الدستور كان تأويلًا غير موفّق للفصل 80 منه. وهي التي كانت تتمسّك بحرفيّة الفصول القانونية وتصرّ على ضرورة التقيّد بها في البرلمان ولجانه. وكان ذلك “ماعون صنعة” تحتاج إليه في وظيفيّتها المنفتحة على أجندة إقليمية ودولية لا تخفي انزعاجها من مسار بناء الديمقراطية بشروط وطنية.

ورغم الزخم الذي عرفه الشارع الديمقراطي واتجاهه إلى التوسع فإنّ هناك عاملين يحدّان من تمدّده الطبيعي ويمثلان نوعًا من الحصار الذي بدأ يطوّقه.

كان العامل الأول من طبيعة أمنية إجرائية تمثلت في إصرار السلطة على حصر تظاهرات الشارع الديمقراطي في الزمان والمكان حتى تغدو عملًا روتينيًا بلا أفق. وأنّه مطوق بثلاثة خطوط حُمْرٍ هي حركته باتجاه المؤسسة الأصلية، وحركته في المكان (المسيرات بدل الوقفات) وحركته باتجاه الجهات. وكان الخط الأشدّ حمرة هو خط الحركة باتجاه البرلمان. ففي محاولتين للالتحاق بساحة باردو كان الحصار الأمني يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 مطلقًا وكاد يشمل جزءًا مهمًا من العاصمة وكلّ ضاحية باردو.

وفيما تعلّق بالحركة في المكان كان هناك تضييق وحصار غير عادي لمنع وصول الحشود من الولايات والأعماق وانفتاح الشارع الديمقراطي على الهامش باتجاه كسر الحواجز وتحديد النخبة السياسية وهو ما أثر على قوة التظاهرات. كما كان قمع الحشود التي تحرّكت من شارع محمد الخامس باتجاه شارع الثورة يوم 14 جانفي/ يناير 2022 عنيفًا وانتهى بسقوط شهيد.

وأمّا العامل الثاني فيتعلّق بانقسام النخبة السياسية، وهو انقسام حول شروط الديمقراطية تطوّر إلى انقسام حول الديمقراطية نفسها. وهذا أخطر ما أصاب الحركة الديمقراطية. رغم رهاننا على أن الدفاع عن الديمقراطية سيساعد حتمًا على الوصول الجماعي إلى شروط شروطها.

في هذا السياق، كان تشكيل جبهة الخلاص الوطني رغم أنّ الانتباه إلى ضرورة امتلاك الشرط السياسي في معركة استعادة الديمقراطية كان توضّح منذ إضراب الجوع الذي انطلق في نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول 2021.

وكانت جبهة الخلاص تتويجًا لمسار كفاحي مشرّف. وهي الهيكل السياسي الذي ارتفع سقفه قبل بنائه وتبلور مضمونه قبل شكله. وقد تشكلت الجبهة من أجل مهمّة مزدوجة: إسقاط الانقلاب وبناء البديل الديمقراطي.

العرض السياسي
مثّل بناء الجبهة نقطة متقدمة في مسار استعادة الديمقراطية. وكان هناك وعي بأهمية واجهة سياسية في الداخل وخاصة في الخارج، فالمعركة رغم أنها تتمّ بأدوات محلية، فإنّها تدار بشروط دولية. ومثلت رئاسة الأستاذ أحمد نجيب الشابي للجبهة ربطًا سياسيًا محكمًا بين ماضي الحركة الحقوقية والديمقراطية ومسار بناء الديمقراطية وما عرفه من تعثرات انتهت بغلق قوسه.

وطرح تواصل الحصار المضروب على الشارع الديمقراطي حتى بعد تشكيل الجبهة ضرورة كسر هذا الطوق. واعتبر “مواطنون ضدّ الانقلاب” أنّ مهمة بناء الشرط السياسي قد استُكملت للتفرّغ للمهمّة الجديدة المتمثّلة في كسر الطوق عن الشارع الديمقراطي وانفتاحه على الشوارع الأخرى السياسي والاجتماعي وأقربها من الشارع السياسي ومنه الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، ومن هذه الأحزاب من كان له موقف جذري واعتبر ما أتاه قيس سعيّد انقلابًا مثل حزب العمال والجمهوري، ومنها من تدرّج في موقفه مثل التيار والتكتل والمسار. وكان المشترك بينها أنّها لا تريد أن تميز بين أخطاء عشرية الانتقال وخطيئة الانقلاب. مع أن بعضها كانت له يد في الخطيئة.

خاض من بقي من “مواطنون ضد الانقلاب” حوارات مهمة مع جانب مما كان يعرف بالخماسي قبل انسحاب الحزب الجمهوري منه وقبل استقالة أمين عام حزب التيار غازي الشواشي ونائبه محمد الحامدي من حزب التيار على خلفية العلاقة بجبهة الإنقاذ.

ولقد تحققت نتائج مهمة في هذا الصدد، من أهمها عقد عقد ندوات وإنجاز ورقات سياسية اشتغلت على الحاجة إلى بناء مشترك وطني في سياق استعادة الديمقراطية وإنقاذ البلاد مما وقعت فيه في ظل الانقلاب. فقد حوّلت سلطة الانقلاب بأدائها السخيف الأزمة المالية الاقتصادية إلى كارثة حقيقية طالت المواطن في أمنه وقوته ومستقبل أبنائه وحريته الشخصية، وحوّلت تونس إلى جزيرة معزولة بعد أن تّم تمزيق النسيج الديبلوماسي وتقاليد البلاد في العلاقات الدولية. وكان هذا مخاطرة مجنونة في ظل وضع دولي متفجر ومحاور صراع متحركة ونظام عالمي غامض المعالم لا يعرف له مستقرًا.

كان هناك مساران متوازيان يحثان خطى مسار الهدم النسقي الذي يمارسه الانقلاب ومسار تجميع القوى الديمقراطية على مشروع إنقاذ وخطة خروج من الأزمة، فكان اعتقال قيادات الحركة الديمقراطية المشاركين في إعداد خطة إنقاذ، للتغطية على الفشل الذريع لأداء سلطة الانقلاب ومنع التقاء القوى الديمقراطية على برنامج بديل يخرج البلاد من أزمتها.

شملت الاعتقالات في منتصف فيفري/ شباط الفارط قيادات من جبهة الخلاص والأمين العام للحزب الجمهوري والأمين العام السابق للتيار الديمقراطي وقيادات من حركة النهضة لتتوّج قبيل العيد باعتقال الأستاذ راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب وزعيم حركة النهضة.

وبقدر ما كانت خطة السلطة ضرب التقارب الواضح بين مكونات الحركة الديمقراطية فإنّ تركيزها كان على إضعاف جبهة الخلاص باستهداف نشطائها الأشد فاعلية وإنهاك النهضة بالإيقافات المتواصلة والملفات المتلاحقة، وانتهت الهرسلة بشلّ الجبهة والنهضة بقرار غلق مقراتهما.

ومع ذلك، يمكن القول بأنّ المشهد في تونس مازال مشدودًا إلى توازن الضعف بين السلطة والمعارضة. وإذا ما توقفنا عند الصراع المحتدم بين الجهتين يمكن ملاحظة أن وضع الحركة الديمقراطية أفضل بكثير مما كانت عليه في أول أشهر الانقلاب، إذ يمكن الكلام اليوم على لقاء حول مهمة الإنقاذ وأولويتها، وأنّ اختلافاتها مستقرة عند حدود معينة لن يوسع منها ما يطرأ من مستجدات الصراع، بل إنّ استهدافها بالاعتقالات قرّب أكثر وجهات النظر ودفع بعض من بقايا الأحزاب الوظيفية إلى مجاراة موجة التقارب بين أحزاب المعارضة الديمقراطية والتعاطف مع المعتقلين السياسيين.

لكن ذلك لا يمنع من أنّ تنتبه الحركة الديمقراطية بأن لا تكتفي بالتذكير في كل تظاهرة سياسية بعملها على استعادة الديمقراطية، بقدر ما هي مطالبة بأمرين مهمين: خطاب معركة منهجي بجمل دقيقة وعرض سياسي مفصل. ونرى أنّ الجامع بين الأمرين هو مبدأ الحوار، فإذا كان الحوار في الأشهر الأولى من الانقلاب مرادفًا للاعتراف بالإجراءات الاستثنائية غير الدستورية، فلا مدلول له في هذه اللحظة السياسية سوى غلق قوى 25 جويلية/ يوليو.

وأمّا في جهة سلطة الأمر الواقع، فإن الاعتقالات التي وسعتها بملفات فارغة وبانتهاك صارخ لإجراءات التحقيق والتقاضي، تدفع شركاءها عامة والأوروبيين خاصة إلى الربط بين المالي والاقتصادي الاجتماعي من ناحية، والسياسي في الحقوقي في تونس، من ناحية أخرى. وينتظر أن تكون السلطة عرضة لتتبعات دولية جادة نتيجة للانتهاكات المتواصلة وسياسة تجريف الحريات الهوجاء.

أمام هذا الوضع، تبدو سلطة الانقلاب التي لم تخرج إلى مرحلة “ما بعد الانقلاب” تحت ضغط عال من شأنه أن يحدث انقسامًا داخلها.

وفي كلمة، يمكن القول إنّ المعارضة جعلت الأسوأ خلفها، وأمّا سلطة الواقع فإن أداءها وحده كان كافيًا ليجعل الأسوأ أمامها.

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى