أهم الأحداثالمشهد السياسيبكل هدوءوطنية

الحوار الوطني و”شروط المرحلة”.. هل يقدر عليها اتحاد الشغل ؟؟

  بقلم / صالح عطية**


هناك طبخة “غير صالحة للاستعمال”، يجري إعدادها منذ بضعة أيام، مادتها الأساسية، إطلاق حوار وطني، يشارك فيه الجميع بلا استثناء، مع ضمان الإفلات من العقاب، للعهد السعيد الشاهق.. ودون محاسبة رئيس الجمهورية، على مخرجات “انقلاب يوليو” الماضي، وتداعياته الكارثية..

تونس شهدت خلال العام ونصف العام الماضية، ــ لمن ذاكرته قصيرة ــ انقلابا على الدستور، وارتدادا على مسار الانتقال الديمقراطي، وغلقا للبرلمان بدبابة، والزج بالسياسيين والصحفيين والحقوقيين وغيرهم في السجون، بعد محاكمات عسكرية، غريبة وعجيبة، وبتهم أغرب من الخيال..

تونس عرفت تآكلا لهيبة الدولة ورموزها لم يسبق له مثيل، وتذويب للسيادة الوطنية، بشكل ممنهج، وعزلة دولية لم تعرفها البلاد، لا في عصر الحرب الباردة، ولا عندما انهار الاتحاد السوفياتي، بل حتى في قلب الحرب على العراق، كانت تونس، مزارا للنخب العربية والأوروبية، تستمع إليها، و”تستأنس” برأيها..


ألغي الدستور الذي أقسم “الرئيس” على حمايته، وابتدع دستور جديد، لا طعم ولا رائحة ولا مذاق له، بين دساتير العالم، حتى المتخلف منه، وأجري استفتاء كلف الدولة (من دافعي الضرائب) عشرات المليارات، كان يمكن أن تفتح شركات صغرى تشغّل آلاف التونسيين،

واستنسخ نظاما سياسيا، غير موجود في أي من دول العالم، ولا يعتدّ به بين الأنظمة السياسية الموجودة في سجلّ الديمقراطيات والديكتاتوريات، على حدّ السواء، وتم تقديم الأمر على أنّه “تصحيح مسار”، فلا المسار وقع تصحيحه، ولا البناء الجديد، لقي رضا التونسيين، وكانت نتائج العلو الشاهق، انحدار إلى قاع سحيق..

هذي العام ونصف العام من عمر “الإنقلاب”، تدهور فيها مستوى معيشة التونسيين، حتى بات الجوع، محل تندّر في الداخل والخارج، وتعطلت مصالح الدولة، وقاربت على الإفلاس، في ظل موازنة جديدة، ستضع التونسيين على ركبهم بفعل الزيادة في الضرائب، في كل القطاعات، حتى سماها البعض بــ “موازنة الجباية”.

رفض “الرئيس” أي حوار وطني منذ أكثر من عام، وعندما حصلت ضغوط، التجأ إلى حوار الأشباح، الذي أثمر دستورا، كتبه الرئيس ذاته، قافزا على اللجنة التي جاء بها “سيادته”، لكتابته، وعندما وجهت لهذا الدستور انتقادات من القريبين منه، غيّر “رئيس الدولة”، بنفسه بعض الفصول، دون الحاجة إلى أي شراكة لا مع معارضيه، ولا حتى مع الذين والوه وطمعوا في جزء من الكعكة، ونافقوه وما زالوا يفعلون ذلك، بكل الصفاقة الممكنة وغير الممكنة، وبوجوه شاحبة مصفرّة، ولغة خشبية قديمة، ورغبة جامحة في إقصاء أطياف وأحزاب وشخصيات من مشهد، دفعوا فيه دمهم وتاريخهم، وناضلوا من أجل أن يصلوا إلى لحظة تاريخية، حلموا بها، عندما كان أولئك الموالون صامتون، يقتاتون في الغرف المغلقة، وبعضهم يشتغل مقررا بل مخبرا عند النظام المخلوع..

*****************************

بعد كل هذا يطلّ علينا اتحاد الشغل، برغبة في إقامة حوار، دون أي كلمة عن محاسبة رئيس الجمهورية، وكأنّ تونس أرض موات، ومواطنوها، أغبياء أو معتوهين، أو مصابون بداء النسيان..

هل يمكن سي نور الدين، إجراء حوار وطني، بمخرجات، تجعل الرئيس، سواء كان قيس سعيّد أو غيره، فوق المحاسبة، بعد كل الذي حصل؟ هل نحن فئران تجارب، لكي يجرّب علينا المجرّب الذي لم ينفع؟

كلا سي الطبوبي، فلدينا ذاكرة، ونحب البلاد، وديمقراطيتها، كما لم يحبها آخرون كثيرون، أنت تعرفهم وتعرف أدوارهم..


نريد مخرجا للأزمة، نعم، وشعبنا مستعدّ للتضحية والكفاح من أجل عيش كريم، لم يساهم اتحاد الشغل في كامل هذه العشرية (التي تسميها عشرية سوداء رغم أنكم طرف فيها)، في تحسين وضعه مطلقا، بل زدتم في أزمته وفقره وخصاصته، وعفّنتم الكثير من الأوضاع البائسة، وحرصتم على استثمار منسوب الفقر، لصالح الإبقاء على مصالح نقابية وحسابات ضيقة، فهل ترفضون المحاسبة، هل ترفضون العقار الذي سينفع في إنهاء الأوجاع والآلام، ويضعنا في المربع الذي تحتاجه تونس وشعبنا الذي يتمنى أن يخرج من عنق الزجاجة؟

لا أخالكم تخشون المحاسبة، ولا أعتقد أنكم تمانعون في ذلك، من أجل الوقوف عند التدمير الممنهج الذي عاشته البلاد خلال هذه الفترة الوجيزة من عمر الانقلاب؟

أم أنكم تفكرون فيما يحدث عنه البعض من خروج آمن؟؟ على أية حال هذا ليس دوركم، وليس من مشمولات الحوار الوطني، الذي نتمنى أن يكون وطنيا فعلا..

*****************************

دعك مما تقوله جبهة الخلاص، من دعوتكم لتشكيل “حراك سياسي واسع” لمواجهة ما تسميه “الاستبداد الجديد”، وهي محقة في هذا التوصيف، لكنها ليست محقة في اختيار عنوانكم، لأنّ الاتحاد مطالب بدوره بالمحاسبة، وما لم تطرح محاسبة الاتحاد على محك الحوار الوطني، فلن ينجح الحوار الوطني، وسيكون على طريقة “بوس خوك”، التي عانينا منها خلال العشرية الماضية..

تونس تحتاج إلى حوار وطني حقيقي، تفتح فيه ملفات الاغتيالات السياسية، بالشكل المطلوب وليس بإدارة غرف عمليات، مثلما يحصل الآن، نريد أن نعرف كيف مات فوزي بن مراد، وعبد الفتاح عمر، وشكري بلعيد ومحمد البراهمي، وطارق المكي، ولطفي نقض..

نريد أن نعرف من يدير غرفة الإعلام اليوم، الإعلام الذي دمّر الثورة، وكان الأداة النافذة للثورة المضادّة، ولا يبدو أنّ نقابة الإعلام التابعة لكم، بمنأى عن هذا التدمير بوعي منها أو من دون وعي.

الأولوية اليوم لتونس، لخروج شعبنا من هذه الأزمة التي تتفرجون عليها منذ فترة طويلة، دون أدنى تحرك، لأنكم ــ كما آخرون كثيرون ــ لا تريدون فتح الملفات الحقيقية، ومن بينها التسفير القومجي، والإرهاب اليسراوي، المغلف بعناوين الوطنية والتونسة والحداثة، والتصحر التنموي، والنهب المالي المنظم، الذي تديره بعض البنوك ــ حتى لا نعمم ــ باقتدار كبير، وخيارات التفقير، التي اختارتها منذ عقود، عائلات كشف عنها السفير الأوروبي السابق، ولم يكشف عنها اتحاد الشغل، للأسف الشديد..

*****************************

نريد الحقيقة، سي نور الدين،
نريد الحقيقة، سي حاتم مزيو، وأربأ بك من أن يشارك المحامون في هكذا حوار، يكونون فيه مثل “الأطرش في الزفة”، فلا تكرروا ما ارتكبه “بودربالة” من خيارات، أقل ما يقال فيها أنها لا تليق بعمادة المحامين، العريقة والمناضلة.

نريد الحقيقة يا أيتها الرابطة الحقوقية، التي تنظرين بعين واحدة لقضايا الحقوق والحريات، إذ كيف تشارك الرابطة في حوار وطني، وهي جزء من حوار الرئيس سعيّد، بل هي جزء من استشارته، والتي نوهت بانقلابه، واعتبرته حركة تصحيحية، بما يجعلها غير محايدة، وليست بالتالي، طرفا موضوعيا في هندسة المستقبل؟؟


لن تكون الرابطة منصفة، في هذا الحوار الوطني، أو غيره، لأنّ رابطة “الطريفي الإبن” ليست رابطة “الطريفي الأب”، وشتان بين الثرى والثريا.

*****************************

نريده حوارا، يؤسس لمستقبل أجيالنا، وليس محطة لحماية جيل جديد من المفسدين، والانتهازيين، الذين يقتاتون من كل الموائد، دون محاسبة أو أدنى مراجعة، يتخفون خلف الاتحاد، لأنهم بلا حائط النقابيين، سيكونون أيتاما في المشهد، ويكون الحوار الوطني، مدخلا جديدا لهم، لكي يفسدوا ما تبقى من أمل بعد أن لعبوا دور القادح للأزمات ولعملية الإفساد، بجانبيها السياسي والقانوني..

نريده أن يكون حوارا وطنيا، يعيدنا لأفق الثورة، والانتقال الديمقراطي، والتنمية التي تراعي الهامش قبل المركز، نريده أن يكون حوارا يؤسس للمستقبل، ولا يرهننا في المستقبل، نريده أن يكون حوارا يخرج تونس من عزلتها، فلا يضعها بين مطرقة الغرب، ولا سندان الشرق.. نريده حوارا يقوم على خلفية ومرتكزات دستور 2014، فمن يقفز على هذا الدستور، كمن يحرص على وضع تونس رهينة لغرف ومعادلات وأجندات، لا ناقة لنا ولا جمل فيها..

هل الاتحاد قادر في هذه المرحلة، على قيادة حوار بهذه الشروط ؟؟

إنّ على جبهة الخلاص، والمعارضة الخماسية، والشخصيات الدستورية المعتدلة، أن تضع نصب أعينها، أنها لن تجري حوارا بشروط قديمة، في محاولة، لتطبيع الوضع القائم، وحماية من دمر منظومات، وخرب مسارات، وأنتج “كثبان الرمل”..

هل يقدر اتحاد الشغل على أن يدير حوارا وطنيا حقيقيا، يكون فيه هو أقل المستفيدين؟؟

*****************************

إنّ مناخ 2014، ليس هو مناخ 2023، وبين الحوارين، ملفات ومشكلات وتعقيدات، وتطورات دولية، وحسابات إقليمية، وأحزاب هوت، وأخرى صعدت من تحت الأنقاض، والهوية القديمة للحوار، لم تعد تعني شيئا، سوى إعادة إنتاج المنتج والمرسكل، في بلد يحتاج، بل ينتظر شعبه، عملية خلاقة ومبدعة وشجاعة، بعيدا عن التزويق الجاري به العمل..

هل تقدر سيد نور الدين الطبوبي على ذلك ؟؟

المسألة تتجاوز مجرّد الكلام والتصريحات التي تبدو شجاعة، المسألة تتجاوز المعادلات القديمة، وتحتاج منك وممن يرغب في الخروج من الأزمة، أن يتحمل مسؤوليته التاريخية، بعيدا عن أي توظيف أو استخدام، أو ارتهان لهذا أو ذاك، في الداخل والخارج، لأنّ الفرصة قد لا تتاح للاتحاد مرة أخرى، وعليكم استثمارها، ليس كما تريدون، بل كما يفرضه الواقع المعقّد، الذي عليك إدراكه جيدا، بلا حسابات “المخزن” من حولكم، ممن احترفوا تضييع الفرص، لأنهم لا يبحثون إلا عن فرصهم هم، بعد أن فشلوا أمام الصندوق، وعجزوا أن يكونوا رقما مهما ضمن معادلات الإرادة الشعبية..

*****************************

بلادنا ارتهنت للمافيات، والعائلات الفاسدة، واللوبيات المتمترسة في الجهات الثرية، وهؤلاء يلقون سندا ودعما من داخل أجهزة الحكم، فهل أنتم قادرون على قص أجنحتهم، وإنهاء وكالتهم منتهية الصلاحية، في لعبة التدمير والتخريب ؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** مدير موقع “الرأي الجديد” وأحد كتاب الرأي

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى