أهم الأحداثٱقتصاد وطنياقتصادياتمقالات رأي

قراءة عميقة وشاملة في برنامج الاصلاحات الاقتصادية لحكومة بودن: سياسة التدمير.. والتفقير الممنهج للشعب 

بقلم جنات بن عبد الله


استنكرت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل، المنعقدة بتاريخ 4 جانفي 2022، ما يكتنف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، من “غموض وسرية وتعتيم، وغياب لأي صيغة تشاركية داخلية”، داعية الى “الشفافية وحق النفاذ الى المعلومة، وإشراك المنظمات الوطنية وسائر مكونات المجتمع المدني في تسطير مسار المفاوضات.

وجاء هذا الموقف، في ظل تسريب “برنامج الإصلاحات للخروج من الأزمة”، الذي أعدت وزارة المالية جزءا منه، وأعلنت عنه وزيرة المالية في الندوة الصحفية بتاريخ 28 ديسمبر 2021، لتوضيح ما جاء في قانون المالية لسنة 2022، الذي قوبل أيضا باستنكار أعضاء الهيئة الإدارية لاتحاد الشغل، الذين اعتبروه قاصرا على تلبية المطالب الاجتماعية الملحة والاستحقاقات الاقتصادية الضرورية للبلاد.

وزيرة المالية اعتبرت قانون المالية لسنة 2022، محطة أولى في تعهد حكومة بودن الانخراط في برنامج الإصلاحات الذي ستتوجه به الدولة التونسية الى صندوق النقد الدولي، للحصول على تمويل جديد، بل هو نقطة ارتكاز هذا البرنامج الذي يغطي الفترة من سنة 2022 الى سنة 2026، وتعبير عن استعداد حكومة بودن، لاستكمال ما تباطأت في تنفيذه الحكومات التي جاءت بعد انتخابات سنة 2014.

النسخة المسربة يوم الاثنين 4 جانفي 2022 لبرنامج الحكومة، من قبل إحدى منظمات المجتمع المدني، وأكدتها وزيرة المالية، سيتم التوجه بها الى صندوق النقد الدولي خلال الثلاثي الأول من السنة الجارية، والتي جاءت بعنوان “برنامج الإصلاحات للخروج من الأزمة”، ركزت على الإجراءات قصيرة المدى التي تدخل في إطار قانون المالية لسنة 2022، وذكرت بأن برنامج الإصلاحات للخروج من الأزمة، يقوم على 4 محاور، تتمثل في إصلاح المالية العمومية، والسياسة المالية، والسياسة النقدية وسياسة الصرف، والإصلاحات المتعلقة بمناخ الأعمال ومقاومة الفساد، بالإضافة إلى الانفتاح.

مغالطات خطيرة
ولئن ركزت الوثيقة المسربة على “إصلاحات” سياسة المالية العمومية، فذلك يعود إلى حاجة هذه الحكومة إلى تمويل عاجل من صندوق النقد الدولي، بما يفترض تحيين حاجيات التمويل وتوفير حجة لخبراء الصندوق، على عزم هذه الحكومة على استكمال “الإصلاحات” الموجعة ذات العلاقة بعجز ميزانية الدولة من جهة، ومن جهة ثانية كشفت هذه الوثيقة عن إبقاء حكومة بودن على نفس الطرح الذي ذهبت اليه حكومة المشيشي بخصوص المحاور الثلاث الأخرى، والتي جاءت بوثيقة بيت الحكمة قبل توجه حكومة المشيشي يوم 3 ماي 2021 الى صندوق النقد الدولي، تلك الوثيقة، التي تندرج ضمن البرنامج الاقتصادي الذي وضعته “شراكة دوفيل” المنبثقة عن قمة مجموعة الدول الثمانية المنعقدة في باريس يومي 26 و27 ماي 2011، بغرض احتواء ثورات الربيع العربي، وترجمها برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي، الذي يعتبر امتدادا للنسخة الأولى منه (سنة 1986) من جهة، وأقرت في رسالة النوايا الأولى لسنة 2013، ورسالة النوايا الثانية لسنة 2016، وبيان المجلس التنفيذي للصندوق الصادر في 26 فيفري 2021 من جهة ثانية.

هذه الوثيقة المسربة أرادت اختزال الأزمة التي تمر بها بلادنا، في شح السيولة، وشح موارد ميزانية الدولة، لدفع المواطن الى الإقرار بأن الخروج من الأزمة، لا يمر إلا عبر صندوق النقد الدولي، وهو ما عمل على إبرازه الثمانون إطارا من الإدارة التونسية، الذين انكبوا طوال شهرين كاملين على إعداد هذه الوثيقة عند طرح الأزمة من زاوية سياسة المالية العمومية، وهو طرح يخفي مغالطات خطيرة، باعتبار أن الأزمة التي تمر بها بلادنا هي أزمة هيكلية وليست ظرفية، كما أنها ليست ذات طابع مالي يمكن تجاوزها بالحصول على قروض خارجية، وخاصة من صندوق النقد الدولي، من خلال وضع سيناريو يسوق لهذا الحل كقدر حتمي على تونس، في كل محاولة البحث عن مخرج من الأزمة.

بين هاجس السلطة.. والإصلاح الحقيقي
اتباع هذه المنهجية يكشف عن تعمد ممنهج لمغالطة الرأي العام الوطني والشعب التونسي، في قدراته الذاتية للخروج من الأزمة، واقتراح حلول وطنية حقيقية، تقوم على إعادة الاعتبار للقطاعات الاقتصادية المنتجة، وعلى الاستثمار الوطني وإعادة الاعتبار للدينار، عبر إلغاء قانون استقلالية البنك المركزي، ووضع الترسانة القانونية التي صادق عليها مجلس نواب الشعب من سنة 2014 إلى سنة 2019 تحت مجهر أولوياتنا التنموية الوطنية.

مثل هذا التلاعب والمغالطات في طرح الإشكاليات والصعوبات التي تواجهها بلادنا، كانت سمة جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، لتخرج للرأي العام ببرامج إنقاذ لم تتجاوز مربع برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي، وخارطة طريق البرلمان الأوروبي والاتحاد الأوروبي، هاجسها في ذلك ليس الإنقاذ، ولكن ضمان وجودها في السلطة.

حكومة قيس سعيد لم تشذ عن هذا المنطق وانخرطت منذ توليها لمهامها في مسار هذه الجهات الخارجية وأعدت “برنامجا للخروج من الأزمة”، على مقاس وصفة صندوق النقد الدولي وانتظارات الاتحاد الأوروبي، بعيدا عن تطلعات التونسيين وأولوياتهم، وحقهم في الشغل والصحة والتعليم …

ومع إبقاءها على المحاور الثلاث التي جاءت في وثيقة بيت الحكمة، لتشكل الى جانب هذه الوثيقة “برنامج الإصلاحات للخروج من الأزمة”، عملت وزارة المالية على تقديم تصورها للإصلاحات الموجعة، ذات العلاقة بسياسة المالية العمومية، والذي صمم على أساس القضاء على دور الدولة التنموي والاقتصادي والاجتماعي، من خلال تجميد الأجور، ورفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات والكهرباء، والترفيع في الضرائب، وتفويت الدولة في المؤسسات العمومية، ليقتصر دور الدولة، ومن خلال ميزانية الدولة، على جمع الضرائب وتسديد الديون الخارجية، لضمان تحقيق التوازنات المالية الداخلية، والضغط على عجز ميزانية الدولة في مستوى المعايير الدولية، أي 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، دون مراعاة الكلفة الاجتماعية والاقتصادية لمثل هذا التوجه.

الإصلاح الأول: تجميد الأجور
في باب التأجير، اعتبرت الوثيقة أن ارتفاع الأجور، لا يتماشى مع تطور الناتج المحلي الإجمالي وأن كتلة الأجور تستحوذ على نصف ميزانية الدولة، وبناء على ذلك تقوم خطة “الإصلاح” على تجميد الأجور الذي سيوفر للدولة، في إطار ميزانية سنة 2022، ما يناهز الــ 1559 مليون دينار.

ما يبعث على الاستغراب بخصوص هذا الباب، أن مثل هذا الطرح يقوم على مغالطات خطيرة باعتبار أن كتلة الأجور على الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، لا يمكن الا أن تفرز رقما مرتفعا، باعتبار التطور الإيجابي لكتلة الأجور، وتراجع نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة، في الوقت الذي يعتمد تقييم عدد الموظفين في الوظيفة العمومية على مؤشر عدد الموظفين بالنسبة للألف ساكن، وليس من خلال مؤشر مالي على غرار ما تعتمده الحكومات التونسية، انسياقا لوصفة صندوق النقد الدولي، التي تعمل على تدمير القطاع العام، من خلال مثل هذا الطرح المالي الفارغ من كل محتوى تنموي واقتصادي، ليكشف مؤشر عدد الموظفين بالنسبة لعدد السكان، أن تونس توظف 55 موظف لكل ألف ساكن، في حين يرتفع هذا الرقم في فرنسا ليبلغ 89 موظف لكل ألف ساكن، ويرتفع أكثر في السويد الى 140 موظف لكل ألف ساكن.

إن المقاربة المعتمدة للضغط على نفقات ميزانية الدولة، عبر الضغط على الأجور هي مقاربة خطيرة، وتخفي حقيقة السياسة الممنهجة لدفع الدولة الى التخلي عن القطاع العمومي والمؤسسات العمومية من جهة، وضرب سياسة إعادة توزيع الثروة من خلال تأمين الدولة للتعليم العمومي المجاني والصحة العمومية من جهة ثانية.

الإصلاح الثاني: رفع الدعم
أما في باب الدعم، ترى الوثيقة أن تقلبات الأسعار العالمية للنفط والحبوب والزيوت النباتية امتصت ميزانية الدولة، وبناء على ذلك ترى الوثيقة ضرورة اعتماد مقاربة الدعم لمستحقيه، والتي ستوفر للميزانية اعتمادات في هذه السنة قدرت بــ 1646 مليون دينار.

ما نستغربه كذلك، تجاهل الثمانين إطارا لتداعيات رفع الدعم على المحروقات والكهرباء على كلفة الإنتاج في القطاعات المنتجة، وعلى ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم، وما يمثله هذا الطرح من تهديد حقيقي لديمومة الإنتاج والقطاعات المنتجة، وتحويل السوق التونسية إلى سوق استهلاكية للمنتوجات الأوروبية، التي لن تجد من ينافسها في أراضينا التي ستتحول بمقتضى هذا الطرح، إلى مقاطعة أوروبية وسوق لمنتوجاتها بامتياز.

هذا التوجه نجد له طرحا موازيا ومدعما له في قانون المالية لسنة 2022، المتمثل في الفصل 57 الذي يتعلق بمراجعة المعاليم الديوانية الموظفة على المنتجات الاستهلاكية، أو التي لها مثيل مصنوع محليا في اتجاه الترفيع فيها، حيث تستثني هذه القائمة المنتوجات الموردة من الاتحاد الأوروبي، التي ستبقى تتمتع بمعاليم ديوانية صفرية، بمقتضى اتفاقية الشراكة لسنة 1995، بما يفتح أمام منتوجات الاتحاد الأوروبي، كامل السوق التونسية،  والقضاء على كل منتوج أجنبي ينافسها في أراضينا.

سياسة رفع الدعم عن المواد الأساسية، من حبوب ومشتقاتها، وزيوت نباتية وحليب، والتوجه نحو حقيقة الأسعار، فيها الكثير من المغالطات، باعتبار أن الانتقال نحو حقيقة الأسعار، يفترض رؤية شاملة تقوم على السيطرة على منظومات الإنتاج، وإقرار إجراءات حقيقية للضغط على أسعار مدخلات الإنتاج، وخاصة إلغاء توريد هذه المواد التي تبقى أسعارها تحت ضغط تقلبات سعر الصرف، والأسعار العالمية في الأسواق العالمية. كما يفترض هذا التوجه، أي رفع الدعم، دعم الاستثمار العمومي والخاص، لخلق مواطن الشغل والتقليص من الفقر.

ومن هذا المنظور فإن اعتبار رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والمواد الأساسية “إصلاح”، سيمكن الدولة من الخروج من الأزمة، يعدّ مغالطة ووهم وافتراء على الشعب التونسي، لأن الضغط على نفقات الدولة من خلال إلغاء الدعم، لا يمر الا عبر إيقاف التوريد والاعتماد على الاكتفاء الذاتي، خاصة في باب دعم المواد الأساسية. كما أن رفع الدعم عن الكهرباء، لا يمر إلا عبر الحفاظ على احتكار شركة “الستاغ” لانتاج الكهرباء من طاقتنا الشمسية، وليس التفريط فيها للشركات الأجنبية، وأيضا عبر إعادة الاعتبار للدينار وترشيد التوريد.

الإصلاح الثالث: الترفيع في الضرائب
وحسب ذات الوثيقة، يرتكز برنامج الإصلاح في باب المالية العمومية، على الترفيع في الضرائب كحل لتدعيم موارد الدولة، وهو توجه لا يخلو من تهديد حقيقي على ديمومة الأنشطة الاقتصادية، وعلى ارتفاع الأسعار، وعلى تدهور المقدرة الشرائية، وعلى تفاقم ظاهرة التهرب الجبائي، وتفاقم الاقتصاد الموازي. ويرى الثمانون إطارا أن هذا “الإصلاح” سيوفر لخزينة الدولة 1881 مليون دينار في سنة 2022.

الإصلاح الرابع: التفويت في المؤسسات العمومية
في باب التفويت في المؤسسات العمومية، الذي اعتبرته حكومة بودن، “إصلاحا” وحلا للخروج من الأزمة، لم تقدم الوثيقة أي رقم، تجنبا لأي صدام محتمل مع المنظمة الشغيلة، لنشير في هذا السياق إلى أنه من سنة 1987 الى سنة 2017، تمت خصخصة 228 مؤسسة، وهي عملية لم توفر لخزينة الدولة سوى 6.4 مليار دينار، منها 3.2 مليار دينار متأتية من تفويت الدولة في مساهمتها في اتصالات تونس.

شروط النجاح والاعجاز
اعتبرت الوثيقة أن من شروط نجاح “برنامج الخروج من الأزمة”، طبعا دون ذكر المحاور الثلاث الاخرى للبرنامج، والتي تشكل تهديدا حقيقيا على سيادتنا الوطنية، وضع خارطة طريق سياسية تتوقف على التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لتوفير حاجيات تمويل ميزانية سنة 2022، التي قدرت في حدود 19350 مليون دينار منها 14350 مليون دينار اقتراض خارجي، و5000 مليون دينار اقتراض داخلي، يتوقف الحصول عليها على تنفيذ الإصلاحات الأربعة في باب سياسة المالية العمومية.

ولاحظت الوثيقة، أنه في صورة عدم تنفيذ الإصلاحات الأربعة، فإن حاجيات ميزانية الدولة من التمويل، سترتفع إلى 28000 مليون دينار ستكون الدولة، حسب الثمانين إطارا، عاجزة عن توفيرها، خاصة من الخارج، في غياب رضا صندوق النقد الدولي على الحكومة.

إننا لنقف عاجزين عن الامتنان لهؤلاء الإطارات، الذين وفقوا بعد شهرين في إيجاد مخرج لأزمتنا الحادة بالتخفيض في حاجيات تمويل ميزانية الدولة من 28000 مليون دينار إلى 19350 مليون دينار بفضل إصلاحات أربعة، ستقضي على المقدرة الشرائية للمواطن وعلى القطاعات المنتجة، وعلى المؤسسات العمومية والمرفق العمومي، وعلى سيادتنا الوطنية والدولة الوطنية، وترهن البلاد للمؤسسات المالية الدولية ورأس المال العالمي.

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى