أهم الأحداثاجتماعيالمشهد السياسيتعليممجتمعوطنية

المقال الذي كشف نجلاء بودن… “تونس: قرض بـ70 مليون دولار لا أثرَ لفوائده في قطاع التعليم العالي”

تونس ــ الرأي الجديد

في 25 شباط/ فبراير 2016، وافقَ مجلس المديرين التنفيذيين لمجموعة البنك الدولي للإنشاء والتعمير، المنعقد في واشنطن، على تمويل مشروع للدولة التونسية بقيمة 70 مليون دولار، وذلك للتصدي لمستويات البطالة المرتفعة بين خريجي الجامعات في تونس.

ثلاث سنوات مرت على مشروع يفترضُ الانتهاء من تنفيذه بحلول أيلول/ ديسمبر 2021، إلا أن تقاريرَ التدقيق المالي والتنفيذي لهذا المشروع، الصادرة عن البنك الدولي ووزارة المالية التونسية، تؤكدُ أن نتائجه حتى الآن، دون المستوى المطلوب ولم ترضِ أحداً، لا سيما المانحين. نرصدُ في هذا التحقيق أوجه سوء التصرف في ما يفترضُ أنه مال عام خلال سنة 2017.

هذا المال العام الذي اقترضته الدولة التونسية لإصلاح قطاع حيوي هو التعليم العالي، الذي يعاني من مشكلات ضخمة أحرجت وزارة التعليم العالي والحكومة على حد السواء، أمام الخريجين الجدد والأساتذة الجامعيين المطالبين باستكمال حقوقهم.

أنجزنا هذا التحقيق بواسطة قاعدة بيانات البنك الدولي للإنشاء والتعمير وقمنا بالاطلاع على عشرات الوثائق المحملة باللغتين الفرنسية والإنكليزية. وتتمثل هذه الوثائق في تقرير التدقيق المالي لوزارة المالية التونسية، بخصوص التصرف في أموال المشروع، ووثائق المشروع من دراسات لحالة تنفيذه وتطوره وملاحظات خبراء البنك الدولي واتفاقية القرض الأصلية التي وقعتها الدولة التونسية والتي بموجبها تم منح القرض.

مشروع طموح يدارُ بأيدٍ مرتعشة
يسعَى (Promesse) مشروع التعليم العالي من أجل دعم المهارات الأساسية للعمل إلى زيادة فرص التوظيف وإلى تحسين قابليتها لدى خريجي التعليم العالي وتعزيز إدارة الجامعات، ويقوم نحو ثلثي مبلغ القرض بتمويل الأنشطة التي تقوم بها مؤسسات التعليم العالي الفردية من خلال آلية برنامج دعم الجودة.

ويهدفُ المشروع إلى تحسين قابلية توظيف خريجي التعليم العالي في المستقبل، عبر دعم الموارد الذاتية للمؤسسات الجامعية لتحسين مواءمة مهارات الخريجين وكفاءاتهم مع احتياجات سوق العمل.

وفقًا لتقرير التقييم الصادر عن البنك الدولي، قدرت تكلفة المشروع على أساس الأسعار المعمول بها في أيلول 2015 بمبلغ 75 مليون يورو، أي ما يعادل 152.250 مليون دينار.

وتبعاً لاتفاقية قرض الحكومة التونسية مطالبة بتمويل المشروع بنسبة تصل إلى 6 في المئة و94 في المئة، يُمولها البنك الدولي للإنشاء والتعمير، تعادل حوالي 142.100 مليون دينار تونسي، موضوع اتفاقية القرض رقم 8590 / TUN بقيمة 64.3 مليون يورو.

يبرزُ الجدول التالي كيف تجنبت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إجراء أي نفقات منذ بدء المشروع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 وحتى 31 منه، ضمن الفئة 1 الصناديق التنافسية (PAQ)، إضافة إلى الفئة الثانية أي التمويل القائم على الأداء.

هاتان الفئتان المهمتان اللتان تشكلان أكثر من 50 في المئة من قيمة القرض، والتي على أساسها تم إسناده لإصلاح قطاع التعليم العالي في تونس للمساهمة في تقليل نسب البطالة في صفوف الخريجين الجدد في الجامعات التونسية.

في حين تم التركيز على الفئة 3 والمعنية بتقديم الخدمات واقتناء مشتريات وتقديم استشارات الخ. فئة انتقدهَا تقرير فريق التدقيق المالي التابع لوزارة المالية لعدم وجود اتفاقات مبرمة مع المزودين لتقديم الخدمة ذاتها (تنظيم ورش العمل والدورات التدريبية). ونظمت الوزارة خلال الشهرين الأخيرين فقط من 2017 ورشات تكوينية واجتماعات بكلفة 148.903,85 دينار تونسي.

تأخير سنة ونصف!


على رغم الموافقة على تمويل مشروع دعم وإصلاح التعليم العالي، منذ شباط 2016 إلا أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لم تنطلق في تنفيذ أهداف المشروع إلا بحلول شهر تشرين الثاني 2017. يؤكد وايت جافراي وهو موظف لدى البنك الدولي للإنشاء والتعمير في تقريره، أن التعديل الذي شمل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وجاء بعد فترة وجيزة من المفاوضات مع البنك، كان سبباً في تأخير تلبية بعض الشروط اللازمة، للفعالية وبدء التنفيذ، ما يتطلب موافقة وزارية، وأصبح المشروع ساري المفعول في 30 تشرين الثاني 2016. وعلى رغم ذلك لم تبدأ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي نشاطات متعلقة بالمشروع إلا بحلول تشرين الثاني 2017. وهو أمر يوصفُ بمنتهى الغرابة، لا سيما أن تونس ترتفع فيها نسب البطالة بشكل ضخم، خصوصاً في صفوف الشباب والخرجين الجدد من الجامعات.

و يشير تقرير جافراي الصادر في أيار 2018  إلى أن معدل صرف المشروع بقي منخفضاً، إذ تم صرف 4.45 مليون دولار فقط -أي 6.4 في المئة من مبلغ القرض -بعد 16 شهراً من التنفيذ، وتم تخفيض تصنيف أداء المشروع وتصنيفات الأداء للتنفيذ إلى “غير مرض إلى حد ما” وفق تقرير

قدمه في 1 أيار 2018
جاء في تقريره أيضا أن تأخر التنفيذ الأولي للمشروع، كان بسبب وزير التعليم العالي والبحث العلمي الذي تم تعيينه حديثاً (سليم خلبوس)، والذي يرغب أولاً في “عقد مؤتمر وطني لإصلاح للتعليم العالي”. وكأنه لا يكترثُ لوجود سيولة ضخمة على ذمة تصرف وزارته لإصلاح هذا القطاع، واتجه مسرعاً إلى تمديد الطريق وعقد الاجتماعات والملتقيات، التي قد تعطل تنفيذ مشروع، فاوضت لأجله الحكومة التي سبقته.

سوء تصرف مالي وتعارض في البيانات
لم تكتف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتأخير تنفيذ المشروع، بل لم تستغل أيضاً المبلغ الموضوع على ذمتها خلال 2017، والذي تبلغ قيمته 4 ملايين يورو، وفق وثيقة كشف حساب المشروع التي اطلعنا عليها. حيث أنها لم تمول الأنشطة المتفق عليها أساساً في الاتفاقية مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير، والتي تمثل أكثر من 50 في المئة من المشروع وعلى أساسها تم منح قرض للوزارة بمبلغ 70 مليون دولار، أي الفئة 1، الصناديق التنافسية (PAQ) وليس الفئة الثانية، أي التمويل القائم على الأداء.

يبينُ الجدول أدناه هوية الأنشطة التي قامت بها الوزارة خلال الشهرين الأخيرين من 2017 أي تشرين الثاني وكانون الأول، والتي تقدر قيمتها بـ148.903,85 دينار تونسي، تمثلت أساساً في تنظيم دورات تدريبية وورشات واجتماعات، انحصرَ المستفيدون منها في دائرة الوزارة فقط، لتشمل لمديرين والموظفين ورؤساء الجامعات الجدد، وحسب، وذلك وفق تقرير التدقيق المالي لوزارة المالية التونسية.

وفقاً لما يبينهُ الجدول السابق، نظمت وزارة التعليم العالي منذ بدء المشروع خلال شهر تشرين الثاني من سنة 2017، أنشطة متمثلة حصراً في ورش عمل تدريبية (الإقامة، استراحة القهوة، استراحة الغداء، إلخ)، من دون أن تبرمَ اتفاقات شراكة مع مزودي خدمات بعينهم، ما حرم المشروع من الحصول على أسعار تفاضلية وأقل تكلفة من تلك التي تظهر في الجدول أعلاه. وهو ما انتقده فريق التدقيق المالي لوزارة المالية واستغرب شراء الخدمات ذاتها من مزودين مختلفين، من دون السعي للبحث عن صيغ تعاقدية تقدم الخدمات ذاتها بأسعار أقل تكلفة. وأوصى وزارة التعليم العالي بتعجيل إبرام اتفاقات مماثلة قبل تنظيم أي نشاطات في المستقبل.

من الملاحظ في الجدول تغيير الأسعار، على رغم وجود الجهة المنظمة نفسها، مثل مدينة العلوم حيث تتباين المبالغ المدفوعة لها، على رغم أن النشاط اقيم في اليوم ذاته، وهناك بعض المصاريف غير المبررة مثل اقتناء مشتريات لم يتم تحديدها وذكر طبيعتها.

فريق التدقيق المالي انتقدَ أيضاً خلال تقريره طريقةَ إعداد (البيانات المالية، الالتزامات، المدفوعات، بيانات الحسابات)، التي قدمتها الوزارة على شكل extcomptable / وExcel وWord. وأكد أن هذا السياق، لا يسهلُ الإنتاج الفوري للتقارير المالية، وفقاً لنماذج البنك الدولي للإنشاء والتعمير (الالتزامات والمدفوعات حسب المكون، والمكون الفرعي، بحسب فئة التمويل بالدينار واليورو ومصدره، وبيانات المصدر واستخدام الأموال إلخ…). ومن ناحية أخرى، لا يضمنُ اكتمال السجلات المحاسبية، لا سيمَا في مَا يتعلق بالالتزامات والعمليات المالية المتبعة في إطار المشروع.

ولاحظ فريق التدقيق عدم وجود إنتاج فوري لمعلومات المشتريات والتقدم المادي والمالي وتقييم النتائج والأداء في تاريخ محدد للمشروع، التي يجب أن تكون موزعة على 5 سنوات، أي المدة المتفق عليها مسبقاً لتنفيذ المشروع.

يبين هذا الجدول بوضوح كيف اختارت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الانطلاق في المشروع المزعوم بإصلاح التعليم العالي، وحتى تؤهل خريجين جدداً لسوق العمل بعقد دورات تكوينية لموظفيها، كلفت آلاف الدنانير من دون أن تلتفت بالفعل للمشكلات الحقيقية داحل الجامعات ولا للبرامج التي من شأنها أن تساهم في إخراج شباب جامعات قادر على خلق المنافسة وارتباك موقعه في سوق الشغل من دون الجلوس على دكة البطالة والانتظار لسنوات.

سوء التصرف في هذه الموارد الضخمة يظهرُ أيضاً من خلال بروز اسم المدعو رشيد العمري في قائمة مسدي الخدمات. إذ تلقى الرجل وفق فريق التدقيق المالي مبلغ 23.184,00 دينار تونسي، مقابل تخطيط وتنسيق الجزء الأول من برنامج دعم الابتكار التنافسي. وإن سلمنا جدلاً، بأن فريق التدقيق المالي لوزارة المالية اطلع على نسخة من عقد الخدمات ولم ينشره عملاً بمقتضيات قانون حماية المعطيات الشخصية، لماذا لم يأت فريق التدقيق المالي لوزارة المالية على ذكر تاريخ إبرام عقد إسداء الخدمات مثلما أوضح الجدول أعلاه في الأنشطة الأخرى؟ كما أنه لم يقع ذكر مدة العقد أي تاريخ بدايته ونهايته، هذا إن وجد عقد فعلاً.

وغابَ عن فريق التدقيق المالي أيضاً ذكر حتى صفة هذا الشخص، إن كان أستاذاً جامعياً أو خبيراً او ممثلاً عن شركة خدمات استشارية، وهو ما يزيد الشكوك حول هويته الحقيقية ومدى أحقيته بالحصول على مبلغ مالي كهذا.

يذكر أنه من المفترض أن تكون نجلاء بودن حرم رمضان، هي من تشغلُ منصب رئاسة “وحدة تصرف” بحسب الأهداف لإنجاز مشروع إصلاح التعليم العالي بهدف دعم تشغيلية خريجي التعليم العالي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، والتي كلفت بهذا المنصب بدءاً من 20 أيلول 2016، بمقتضى أمر حكومي عدد 1270 لسنة 2016 مؤرخ في 21 تشرين الثاني 2016.

وفقًا للمادة 2.04 من اتفاقية القرض المبرمة بين الدولة التونسية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، على الدولة التونسية أن تدفع للبنك الدولي للإنشاء والتعمير رسوم فتح تعادل 0.25 في المئة من مبلغ القرض. تم تسوية المبلغ المقابل البالغ 160.750 ألف يورو على حساب القرض الرئيسي، ما يعادل 394.721,625 دينار تونسي.

الدولة التونسية ستدفع أكثر من 101 مليار دولار حتى عام 2048
على رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تونس، ألزمت الحكومة نفسها بدفع أقساط قرض ضخم تصل بعض دفعاته إلى أكثر من 3 مليارات دولار للقسط الواحد، (هذا دون احتساب تفاوت قيمة اليورو وما سيعادله بالدينار التونسي خلال السنوات القادمة). فانطلاقاً من عام 2021 وإلى حدود 2048 أي خلال 27 سنة، الدولة التونسية مطالبة بسداد قرض 70 مليار دولار الذي تبلغ فوائد بعض أقساطه 3 في المئة من قيمة المبلغ الأصلي للقرض.

تبين وثيقة الاتفاقية الأصلية الموقعة بين البنك الدولي للإنشاء والتعمير والدولة التونسية، ممثلة بوزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي السابق ياسين إبراهيم، التدرج في الفوائد على القسط الواحد انطلاقاً من 1 في المئة إلى 3 في المئة، وفق ما يبينه الجدول أدناه، وبالتالي تصبحُ الدولة التونسية مطالبة بدفع 101 مليار دولار) هذا دون احتساب تفاوت قيمة اليورو وما سيعادله بالدينار التونسي خلال السنوات القادمة (أي إجمالي مبلغ الفوائد الإضافية من مبلغ القرض الأصلي يقدر بـ 31 مليار دولار).

البطالة… تراجع ضئيل
ترتفعٌ في تونس نسب البطالة بشكل كبير لتصل إلى 15.5 في المئة من مجموع السكان النشطين عام 2016. وتعتبر فئة الشباب في سن 15-24 سنة أكبر شريحة تعاني من البطالة، بـ 34.8 في المئة من مجموع السكان النشطين، أما أصحاب الشهادات العليا فقد بلغت نسبتهم في السنة ذاتها، أي سنة الحصول على موافقة القرض 31.45 في المئة.

مع انطلاق تنفيذ مشروع إصلاح التعليم العالي المذكور، لم تتراجع نسب البطالة بشكل كبير لا سيما في صفوف أصحاب الشهادات العليا، وإن كانت أهداف المشروع موجهة أساساً للخريجين الجدد من الجامعات.

تشير وثيقة متابعة تنفيذ المشروع الصادرة عن البنك الدولي إلى ضرورة إعادة هيكلة المشروع، والتي تتطلب:

ــــ تقليل التخصيص في الفئة 3 من اتفاقية القرض “السلع والخدمات غير الاستشارية، وخدمات الاستشاريين “من 12,239,250 مليار يورو إلى 7,639,250 مليار يورو (أو انخفاض بنسبة 38 في المئة)، قد ينتج عن هذا النقص دمج أو إلغاء أنشطة المساعدة الفنية التي يتم إكمالها داخلياً بواسطة وزارة التعليم العالي.

ــــ إعادة تخصيص الأموال من الفئة 3 لتقسيمها إلى الفئة 1 “المنح الفرعية التنافسية للمشاريع ومكوناتها الفرعية المتعلقة بدعم قابلية التوظيف لدى الخريجين الجدد. والفئة 2 الخاصة بالمنح الفرعية للأداء وتلبية الاحتياجات المالية لمخصصات ميزانية الصناديق المنقحة، وكذلك لتوفير حوافز مالية إضافية من خلال نظام العقود القائمة على الأداء.

وبناءً على هذا الاقتراح، ستتطلب إعادة الهيكلة أيضاً مراجعة رسمية لتقديرات الصرف الأولى.

لكن يبقى السؤال، هل ستلتفت الحكومة التونسية لتقارير التدقيق المالي والإداري لمؤسساتها الذاتية المركونة في أدراجها والمعبأة بمظاهر سوء التصرف والإدارة، وهل ستتخذ إجراءات حاسمة تجاه موظفيها، لا سيما فيما يتعلق بما أشار إليه هذا التحقيق؟

تعصف أزمة اقتصادية خانقة في تونس، لكن على ما يبدو أن ارتهانها بملايين الدولارات للبنوك الدولية، وسوء التصرف بهذه القروض، هو أحد أسباب غلاء المعيشة فيها وإثقال كاهل الموطن.

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى