1.المشهد الثقافيأهم الأحداثالمشهد السياسيبانورامابكل هدوءوطنية

الدكتور “هشام جعيّط”… الذي رحل من بيننا… دون أن يرحل عنّا…  

 

بقلم / صالح عطية

 


قامة أخرى من قمم العلم والمعرفة، تترجل، بعد أن أخذتها الموت بغتة من بيننا..

رحل اليوم، المفكر والمؤرخ والمثقف “غير العضوي”، الدكتور، هشام جعيّط، عن عمر تجاوز الثمانين عاما، بعد أن صارع فيروس كورونا اللعين..
كان الرجل أمة بحاله.. وشخصية وطنية فذّة، وقامة علمية مرموقة بين المؤسسات العلمية والبحثية والأكاديمية المختلفة، من تونس إلى طنجة، ومن الخليج إلى الخليج، وصلب المؤسسات الأوروبية، وبخاصة الفرنسية والألمانية والبرتغالية والإسبانية، التي أدركت مبكرا ــ قبلنا بالطبع ــ أنّ الرجل قامة علمية مجتهدة في مجال هو الأعقد، فكريا وحضاريا.

بنى هشام جعيّط لنفسه صرحا علميا وفكريا وأكاديميا خاصا، فلم يتأثر بالدراسات الغربية، ولم يبق سجين الدراسات العربية القديمة، والحقل الدلالي العربي، بجميع اتجاهاته..

أخذ على عاتقه، بناء “منظومة فكرية ــ تأريخية”، بخلفية لا تصطدم مع الموروث، ولا تذوب في منعرجاته وفيافيه.. منظومة مبدعة، قوامها الطروحات العقلانية، بعيدا عن عقلانية المستشرقين، الذين كان الرجل أحد أبرز محاوريه ومنتقديه، لأنه نسف البناء الفكري الذي يستندون إليه.

لم يجعل هشام جعيّط من التاريخ، مجرد سردية للقراءة والتحليل، كما يفعل أشباه المؤرخين، إنما حرص على إعادة بناء هذه السردية، بمضمون وتساؤلات وهموم جديدة، تقتات من التطورات المسجلة في مجال العلوم الإنسانية، وتولي ظهرها لتلك الأقاصيص الهامشية، التي أراد البعض من المؤرخين، أن يجعل منها، التاريخ ذاته، والسردية الأساسية لمجريات التاريخ..

عندما أجريت له حديثا لصحيفة “الشرق” القطرية أواسط العشرية الماضية، قال لي بالحرف الواحد: “أرفض الفصل بين التاريخ الأوروبي والعربي وغيره، التاريخ حلقات داخل منظومة سردية، لا يمكن التفكير فيه من خارجه”، مضيفا: “أنا أعمل على تفكيك هذه السرديات، دون إلغائها، ونقدها دون الإطاحة بها”.. وتلك من أهم وأبرز إضافات هشام جعيّط في الحقل التاريخي والفكري، وضمن سياقات العلوم الإنسانية، التي كان من أكثر المطلعين على تطوراتها التاريخية، ودلالاتها الثقافية والحضارية، ومآلاتها السياسية..

عندما زرته في بيته، توقفت عند تواضع الرجل، وهدوءه الذي يعرفه القاصي والداني، لكنه تواضع يخفي عمقا كبيرا، وهدوء مليء بالتساؤلات والاستفزاز، فأنت أمام رجل يطرح عليك من التساؤلات، أكثر مما يقدم إجابات، لكنه عندما يتكلم، تشعر أنّ الجميع لا بد أن يصمت، لكي ينصت..

في غمرة التجاذبات السياسية التونسية حول مسألة “التوافق”، التي أثارت جدلا كبيرا، وأسالت حبرا كثيرا، نطق الرجل بما كان يعتقد ألا ينطق به..

قال بوضوح شديد: “التوافقات هي دأب الثورات، لا يمكن بناء دولة جديدة، من دون توافقات”، فأغضب شقا من المستمعين في إحدى قاعات فندق “بالاص ــ قمرت”، قبل أن يضيف بشكل أوضح: “لكن التوافقات المطلوبة، هي التي تقوم على مشروع بين قوى حقيقية في المجتمع”، فتسبب في غضب الشق الثاني..

وحتى لا بيقي القاعة تتنابز بالغضب، أردف قائلا: “هل لدينا خيار آخر خارج سياق التوافقات ؟”، وأضاف: “كل الثورات في التاريخ، انتهت إلى التوافقات، والتجارب التي لم تذهب في هذا السياق، وجدت نفسها في أتون الحرب الأهلية”..

نطق الرجل… فأقنع وأسكت وفتح النقاش على مجالات أخرى، خارج دائرة التجاذب التقليدي الممجوج، نخبويا وشعبيا..
في السياسة، لم ينخرط هشام جعيّط مع النظام المخلوع، رغم كل الإغراءات وألوان “الجنان” التي قدمت له، لكي ينضم إلى قافلة الأبواق التي احترفت الدفاع عن النظام وسياساته و”ثقافته” (إن كانت له ثقافة حقا)، لكنّ الرجل، فضل البقاء خارج هذه الدائرة، بل خارج سياقات قرطاج ودوائره وأخطبوته..

بعد الثورة، لم يكن إلا ذلك الصوت المتحدث قليلا، لكنّه الأرفع عندما يتكلم.. والأكثر مصداقية، والأشدّ إصرارا على قول ما لا يقوله آخرون… فذلك دأب المفكرين المستقلين، الأحرار، الذين لا يملكون سوى فكرة، ورأيا وموقفا ومقاربة، هي أعتى من كل الجيوش والأحزاب و”الماكينات” القديمة والجديدة، بيمينها ويسارها وغرفها القديمة والجديدة..

طبعا سنترحم على هذا الرجل… وسنعزّي أهله ونعزي أنفسنا فيه.. فالشعوب تموت كلما مات فيها مثقف حقيقي، وليس مزيفا، وهي ترتبك كلما فقدت قامة علمية من قامات البلاد..

لست أدري كيف استطاع هشام جعيّط، أن يحتضن اليمين دون أن يكون تابعا له، وكيف استطاع أن يجعل اليسار إلى جانبه، دون أن ينخرط في مقارباته، وكيف اضطر “الدولة” إلى أن تحرص على استمالته، دون أن يميل إليها، لا شمالا ولا يمينا، مع أنه فرض احترامها له..

المثقفون الجديرون بهذه التوصيف، لا يحتاجون إلى عناوين يستظلون بها، لأن لديهم من العناوين، ما يبني دولا ومقاربات وقيما وشعوبا جديدة…

حتى لا يكون حديثنا، من باب التعزية فقط، وهي واجب علينا.. وحق للرجل على شعبه ونخبه، نقترح أحد هذه المقترحات التي سبق لي أن طرحتها على موجات إحدى الإذاعات التونسية، وهي:

ــــ أن تنظم له جنازة وطنية مهيبة، تليق بالمثقف والمفكر، في زمن الخواء الفكري، عسى أن ندغدغ في شبابنا ونخبنا، الهمة الفكرية والثقافية التي تحتاجها البلاد اليوم وغدا..
ــــ أن تنشئ الدولة اليوم والآن، مركزا دراسات ضخم، لتدريس وتطارح كتابات وأفكار هشام جعيّط… مركز يحدث زخما فكريا وثقافيا في هذه البلاد، التي تكاد تشهد تصحرا ثقافيا، في ضوء هذا الوضع السياسي المبتذل الذي نعيشه..
ــــ أن تخصص مقعدا في الجامعة التونسية يطلق عليه “مقعد هشام جعيط”، يختص في المحاضرات والندوات الفكرية الدولية، التي تليق بالرجل وفكره..
ــــ أن يطلق إسمه على أكثر من شارع بالعاصمة والولايات و”دور تونس” في الخارج، حتى يظل هشام جعيط، رقما ورمزا وقامة إلى الأبد في أذهان التونسين، وبخاصة شبابنا، إناثا وذكورا..

رحم الله هشام جعيّط، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، ورزق أهله وأقرباءه وأحباءه جميل العزاء والصبر..
و”إنّا لله وإنّا إليه راجعون”…

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى