بكل هدوءمقالات رأي

“جبهة وطنية واسعة” من أجل مرحلة سياسية جديدة


بقلم / صالح عطية

 

بات واضحا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أنّ أزمة تونس الحقيقية، هي في وجود رئيس للبلاد، “خارج السياق” تماما..
فالرجل لم يكفه، عدم قبول وزراء التحوير، لأداء اليمين، بداعي فساد بعضهم، دون أن يقبل البقية،
ولم يكفه مقاطعة رئيس الحكومة، باعتباره “خائن للأمانة”، أمانة التكليف، وكأننا في نظام قبلي بدوي، يصنف الناس بالخيانة والصدق والإخلاص، في ضرب واضح وفاضح لقيم الجمهورية، ولمعايير الحياة السياسية الحديثة،
ولم يكفه اتهام السياسيين والأحزاب والمنظومة السياسية، بالفساد والتآمر والخيانة و”الغرف المغلقة”، و”البيوت السوداء” واللوبيات، وغير ذلك من المعجم الذي لا يليق برئيس دولة، يفترض فيه أن يكون جامعا للتونسيين بكافة أطيافهم،
ولم يكفه اختلاق سرديات اغتياله الكاذبة، مرة بخبزة مسمومة، سرعان ما يتضح تهافتها، وثانية بوثيقة هلامية، أثبتت النيابة العمومية، عدم صحتها، وعدم وثوقية الرواية التي كانت مثل لعب الأطفال المصنوعة من الرمال، كلما أمسك الأطفال بها، تفتت بين أيديهم.

لم يكفه كل ذلك، بل رفض مؤخرا التوقيع على التعديلات التي أدخلها البرلمان على قانون المحكمة الدستورية، متعللا بمسائل لا تدور إلا في عقله وحساباته التي لا معنى لها سياسيا، سوى أنها تعطيل للدولة، ولمسار الانتقال الديمقراطي، وسط إصرار على أن يكون الرئيس “المفدّى”، هو الزعيم، وهو الرئيس، وهو المرجع (بلا مرجعيات)، وهو المؤوّل للدستور، الذي يقوم بخرقه بصفة ممنهجة منذ صعوده إلى سدّة الرئاسة، بفضل هذا الاحتكار في تأويله، بشكل حرفي ميكانيكي لا طعم قانوني ولا دستوري ولا سياسي لما يقوم به..

فيما البلاد تمرّ بوضع سياسي شديد الحساسية، بسبب هذه “الشطحات” و”الخزعبلات الرئاسية”، كما يصفها كثيرون، من السياسيين التونسيين، وللأسف من شخصيات أجنبية مقيمة بيننا أو ممن يزورون تونس بانتظام، ونجلس إليهم، وننصت إلى تحاليلهم ومقارباتهم المحبّة لتونس ولنخبها وطبقتها السياسية، رغم كل ما يمكن أن يوجّه إليها من انتقادات..

لقد عطلت رئاسة الجمهورية، بشكل واضح، أعمال الحكومة، وأربكت تحركات رئيسها، وأفسدت زياراته إلى الخارج (فرنسا، إيطاليا، ليبيا، وربما يفعل ذلك بمناسبة الزيارة المتوقعة إلى الشقيقة، المملكة العربية السعودية)، وبات الرئيس يعتمد طريقة “المناورة الفجّة”، لإفساد أي محاولة من شأنها حلحلة الأزمة السياسية القائمة منذ عدّة أشهر..

فقد رفض مقابلة رئيس الحكومة، مرارا وتكرارا، ورفض الحديث إلى رئيس البرلمان أو استقباله، لأكثر من مرة، رغم المساعي التي بذلها كثيرون من أجل تحريك المياه الراكدة في وادي قرطاج، ورفض قبول شخصيات من الداخل والخارج، رغبت في إيجاد تسوية لهكذا عطل سياسي، المهم، أن يبقى الرجل رئيسا، بدستور يرفض مضمونه، ويبشّر ببديل فوضوي عنه، ولكنّه يصرّ على أنّه هو الوحيد الذي يمثّل جهة التأويل لمضمونه..

دعك من تلك التعلات التي ساقها في “ملزوميته” الأخيرة، في قراءة أقلّ ما يقال فيها أنها “تلمذية” تعود إلى ما قبل السنة الأولى من دروس العلوم السياسية في الجامعة.

ثمة أسئلة مهمة في تقديرنا، تحتاج إلى أن ننفض الغبار عنها اليوم، ومنها :

ــــ
هل من الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية، أن يرفض مقابلة رئيس الحكومة ورئيس البرلمان، رغم أنه ليس في خصومة معهما، على الأقل الخصومة التي ترتبط بمصالح البلاد العليا، الذي يفترض أن يكون الرئيس مؤتمن عليها، وليس الخصومة الشخصية أو الذاتية ؟؟

ــــ
هل يسمح الدستور التونسي لرئيس الجمهورية، بأن يرفض التوقيع على قانون من البرلمان، فلا يطعن فيه، ولا يطالب باعتماد قراءة ثانية له، ولا يقدّم مقترحات بشأن الإخلالات التي يقدّرها ــ إن كان ثمة إخلالات طبعا ــ ويتصور أنّ تعديلها ضروري، مثلما يفعل الرؤساء الذين يحترمون طبقتهم السياسية، ويمارسون مهامهم في كنف الاحترام لمؤسسات الدولة ورجالها، ومخرجات أعمالها، سيما إذا كانت أعمالا برلمانية ؟؟

ــــ
هل يضمن الدستور التونسي، هذا “الحق المطلق” لرئيس الدولة، لكي ينفرد بتأويل الدستور، فتتوقف عنده الأمور، وكأننا في نظام ملكي، أو في مرحلة “أهل الحلّ والعقد”، رغم اختلاف السياقات وطبيعة المؤسسات ؟؟

ــــ هل بوسع رئيس الجمهورية، وفقا لمنطوق الدستور ومنطقه الداخلي، أن يؤسس مقاربته على مرحلة سابقة، لم يكن الرجل لاعبا فيها، ولا حتى شبه مؤثر في مجرياتها، فيقوم بإسقاطها على الوضع الراهن، في علاقة بالمحكمة الدستورية، ويحاكم الفاعلين السياسيين على مرحلة سابقة، جرى تجاوزها، وبدلا من توقيع القانون، يعيد الحضور إلى مشهد قديم، لم يكلفه أحد بأن يكون وصيا عليه مطلقا ؟؟

ــــ هل أنّ النظام العام الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية، في نوع من الوصاية عليه، وكأنه المؤتمن الوحيد عليه في البلاد، ينخرم بتشكيل المحكمة الدستورية بصفة متأخرة، أم بعدم تشكيلها أصلا ؟؟

ــــ
أليس التهديد بعدم ختم قانون المحكمة الدستورية، في صورة إقراره في قراءة ثانية، يعدّ استباقا لمآلات غير معروفة، بما يعني التمهيد الواضح والمعلن لخرق الدستور، والدفع باتجاه الإبقاء على الوضع الراهن كما هو، لأنّ الطرف الوحيد الذي يستفيد من غياب المحكمة الدستورية، هو رئيس الجمهورية تحديدا، وبعض الأطراف السياسية المراهنة على ذلك، لأنّ من مصلحتها الإبقاء على الشكل الراهن للرئاسة، كطرف معطّل ومهيأ للتحكم بالريموت كونترول..

اللافت للنظر، أنّ بعض فقهاء القانون الدستوري، والشخصيات السياسية المرموقة في بلادنا، اعتبرت، بعد قراءتها لرسالة رئيس الجمهورية، أنّ تعويل الرئيس على غياب المحكمة الدستورية، يشكّل بابا لإسقاط الشرعية الدستورية، مع ما يمثله ذلك من تهديد للسلم الأهلية في البلاد.

الحقيقة المؤسفة، أنّ رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، يبدو اليوم، مستقيلا من الشأن العام، ومن أعمال الدولة، وهو إذا ما ظهر فإنّه لا يفعل سوى تأبيد الوضع القائم، وتخويف الناس، وإلقاء التهم والأراجيف على “خصومه” المعروفين، وغير المعلنين من قبله، وتقديم البراهين الجديدة، على أنّ للرجل رغبة في تعطيل الدولة، ومرافقها، والحكومة ومؤسساتها، والبرلمان ومخرجاته، بكيفية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، لم يرتكبها الزعيم الراحل، حتى في أيام وأشهر مرضه، ولم يفعلها بن علي، رغم كل السطوة التي كانت لديه، والآلة القمعية التي كان يقودها ويسوس البلاد بواسطتها..

لذلك نقترح اليوم، تشكيل جبهة وطنية واسعة، من فقهاء القانون الدستوري، الرافضون لهذه الممارسات، ومحامون وقضاة، وشخصيات سياسية اعتبارية، في نوع من “الكتلة التاريخية”، التي تكون أجندتها: الضغط على البرلمان، باتجاه إرساء المحكمة الدستورية، والدفع باتجاه حوار وطني عبر تنشيط مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، وتعديل القانون الانتخابي، للذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها، لإنتاج مشهد سياسي وحكومي جديد، في أفق نهاية السنة الحالية..
ونعتقد، أنّ صمت الطبقة السياسية والنخب على خروقات رئيس الجمهورية، لحسابات سياسوية ضيقة، من شأنه أن يضيّع البلاد، وهذه التجربة الديمقراطية، على الجميع… لأنّ السقف إذا ما انهار فلن يفرق بين اليمين واليسار، ومن يصطف خلف الرئيس أو من يعارضه، ومن يتلذذ بهذه الخزعبلات الرئاسية، ومن يتألم منها..
من يقود هذه الجبهة ؟ ومن يتزعمها ؟ ومن يكون فيها ؟ ومن يقصى منها ؟
كلها ــ على أهميتها ــ تفاصيل بالنسبة لوطن يئنّ تحت وطأة رئيس يحتكر تأويل الدستور، ويجرنا جرا إلى المساس بسلمنا الأهلية، وديمقراطيتنا الناشئة، وحرياتنا المكفولة، ورصيدنا الرمزي في الإقليم وعلى الصعيد الدولي..
وفي اللحظات الحاسمة، كما يعلم الجميع، يكون للرجال والنساء معنى في حياة الشعوب…

الوطن يحتاج من نخبه اليوم، والآن.. الجرأة والشجاعة قبل فوات الأوان…

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى