أهم الأحداثبكل هدوءمقالات رأي

2020: هوية الرئاسة… العلاقات السياسية… ريش الفساد… والثورة المضادّة تستنفر .. بقلم / صالح عطية

عام 2020 بنظرة متناسلة إلى المستقبل... قراءة من سردية مختلفة


بقلم / صالح عطية

 

نطوي اليوم عاما لم تعش بلادنا نظيرا له في تاريخها… عام اجتمعت فيه الكثير من الصعوبات والعوائق، وحتى الكوارث، الاجتماعية والصحية، والتعقيدات السياسية، يضاف إليها، المأزق الاقتصادي المتراكم منذ نحو عشر سنوات.

كورونا.. والمصعد الاجتماعي
في هذا العام، واجهت البلاد وباء “كوفيد ـ 19″، بإمكانات ضعيفة ومحدودة، ومقدرات طبية واستشفائية ومؤسساتية، بدت دون حجم الكارثة التي أصابت التونسيين على حين غفلة، فتسببت في إرباكهم والتشويش على عقولهم المشوشة أصلا، بفعل الأزمات وحالة الإحباط، واليأس أحيانا، لكنها أربكت كذلك الحكومة، ومؤسساتها السياسية والصحية والاجتماعية، واستفزّت الموازنة العامة للدولة، التي فتحت المجال لتلقي المساعدات الداخلية والخارجية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..

نحتاج في 2021، إلى الشروع في مقاربة جديدة للتنمية الاجتماعية، منظورا إليها بشكل شامل، واعتقادنا أن وزير الشؤون الاجتماعية، محمد الطرابلسي، يملك الرؤية والروية والأفق الذي يقنضيه المصعد الاجتماعي، سيما والرجل ابن هذا المصعد، وربما أحد مؤسسيه من الزاوية الاجتماعية النقابية، على الأقل، ومن الضروري، الاستثمار في هذا الحقل بشكل جدي..

حكومات.. بولادة مختلفة
في هذا العام، 2020، عرفت الأوضاع تشكيل ثلاث حكومات في ظرف أقل من عام، واحدة، لم يفعل رئيسها (الحبيب الجملي)، سوى تشكيلها، دون أن تحظى بتصديق البرلمان، فأسقط من خلالها، حق الأغلبية البرلمانية في اختيار رئيس للحكومة، وتغيرت بموجب ذلك، المعادلة السياسية، بعد أن وجد الرئيس نفسه أمام هديّة سرعان ما تلقفها، مستفيدا من صيغة “الشخصية الأقدر”، التي تضمنها الدستور الجديد، مزيحا بذلك الأحزاب ومقترحاتها ودورها في التشكيل الحكومي..

أحيا رئيس الدولة من “أماتـتهم” الانتخابات وصندوق الاقتراع، وجاء برجل، (إلياس الفخفاخ)، لا رصيد سياسي له، سوى بضع سنوات بعد الثورة، أدار في بدايتها وزارة المالية (مرحلة الترويكا)، بنتائج مخيبة للآمال، وبحصيلة انتخابية رئاسية وتشريعية في 2019، لا تتجاوز الصفر فاصل، ورغم ذلك، دفع به قيس سعيّد إلى سدّة رئاسة الحكومة، دون رغبة الأحزاب التي اختارها الناخبون التونسيون… فعل الرئيس ذلك في انسجام تام مع “أجندته” الزاحفة على الوضع الذي يعتبره “بائسا”، ويحرص على تغييره، بوسائل محدودة لا يتيح له دستور البلاد غيرها..

شكل الفخفاخ حكومة، في الظاهر متنوعة، وفي الباطن، كانت لغما يحمل أسباب انفجاره، ومع إخراج ملف تضارب “الشخصية الأقدر”، كان ذلك كافيا، لسقوط حكومة، نخرها الاختلاف، وتضخم الأنانيات، والمعارك الإيديولوجية القادمة من الزمن البائس، وبدلا من محاسبة رئيس الحكومة، الذي استقال عنوة، هنأه رئيس الجمهورية، بنجاح مهمته!!

ليس هذا وحسب، بل إنّ أدعياء مكافحة الفساد، استمروا في الدفاع عن رئيس الحكومة الذي باتت تلاحقه شبهات فساد، مدعمة بتقارير من داخل هيئات رقابية صلب مؤسسات الدولة..

ومرة أخرى، تعود المبادرة لرئيس الجمهورية، الذي يختار “الشخصية الأقدر”، ممثلة في  هشام المشيشي، رئيسا للحكومة الجديدة.

لكنّ التكليف سرعان ما ضاع من أيدي الرئاسة، لتحتضنه أحزاب وكتل برلمانية، وتشكّل ائتلافا برلمانيا وسياسيا جديدا، بات عمليا، هو الحزام من حول رئيس الحكومة.

الحكومات ليست عناوين سياسية فقط، إنما هي مشروع تغيير في الواقع، وتأسيس للمستقبل، وهذا ما ينبغي أن تهضمه حكومة السيد المشيشي..

الصراعات.. داخل السلطة
في هذا العام، 2020، بلغ الخلاف بين رئيس الجمهورية من جهة، ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان، من جهة أخرى، مرحلة من التعقيد، بعد أن أصبحت رئاسة الجمهورية، الأشد حرصا على استثمار الخلافات الحزبية، لاستعادة النظام الرئاسي، في ظل تصريحات رئاسية، تشي كلها بالمساهمة ــ بحسن نية، أو بقصد ــ في القطع مع النظام السياسي الراهن، وبناء نظام لا أساس له في الأنظمة السياسية التي يجري تدريسها حتى في كبرى الجامعات الغربية، “نظام سياسي” ينتمي إلى نوع جديد من “الشعبوية السياسية”، التي تقتات من حالة إحباط وغضب تسكن قلوب التونسيين وعقولهم، بعد سنوات من الجفاف الاجتماعي والاقتصادي، والتخبط السياسي، كانت الرئاسة محقة في نقدها، غير أنّ مخرجات هذا النقد،  جاءت دون انتظارات النخب، وحتى الرأي العام بمختلف مكوناته.

ورغم محاولات الالتقاء مع رئيس الجمهورية، و”الرسائل” التي بعث بها البعض بغاية إنهاء مسار الخلاف، والبناء على ثقة متبادلة مع الحكومة، ومع رئاسة البرلمان بوجه خاص، إلا أنّ الرسائل التي صدرت عن الرئاسة، كانت تفيد عكس ذلك تماما..

في السياسة، الزمن مهم، والسياق محدد، والرجال عناوين أساسية، والعلاقات كيمياء، ليس من السهل الإمساك بها، أو التحكم فيها بشكل منفرد..

الرئاسة.. الجزء المعطّل.. ولكن
ما يزال رئيس الجمهورية، رغم تعقيدات الوضع، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، يستخدم مفردات “الأطراف” و”الواهمون” و”المتحيلون” و”المستثمرون في بؤس الناس”، و..و..و..و..و… بشكل تحوّلت رئاسة الجمهورية، إلى ما يسميه اللبنانيون
بــ “الجزء المعطّل” في السياق السياسي التونسي، بل في السياق المؤسساتي للدولة.

فلا وجود لثقة رئاسية في المشهد، إذا استثنينا، مرحليا، التيار الديمقراطي وحركة الشعب، أما البقية فهم “من سلالة النظام القديم” وقسم منهم “متآمرون على الشعب”، والبعض الآخر، أحزاب انتهت صلوحيتها، مثلما انتهت الديمقراطية التونسية، لأنها شكل تنظيمي سياسي، يرى رئيس الجمهورية، أنّ العالم يبحث عن بديل له..

حتى الحوار الوطني الذي اقترحه اتحاد الشغل على مؤسسة رئاسة الجمهورية، أعاد قيس سعيّد، إخراجه بشكل جديد مشترطا، وواضعا جملة من المحددات لاحتضانه والموافقة عليه، تنسجم مع طروحات الرجل، وخلفيته التي يجرها معه منذ العام 2011..

قلت سابقا، وأعيدها اليوم، أنّ رئيس الجمهورية، لا يعرف الدولة عن قرب، وظل خلال كامل مسيرته، أستاذا متعففا عن السلطة ودوائر السياسة، لكنه اليوم، وبعد عام ونيّف من دخوله القصر الرئاسي، بدأ الرجل يفهم “ميكانيزمات الدولة”، ويطلع على حيثيات مهمة، ستتيح له غدا التصرف بشكل مختلف عن المرحلة الحالية..

لذلك، نعتقد أن رئاسة الجمهورية، ستغيّر بداية من 2021، من “برمجيتها” السياسية والعملية… قد تبقي على تناقضاتها مع بعض الأطراف السياسية، لكنها ستغيّر من طرق العمل، وأسلوب الإبلاغ والاتصال، ومضمون الأداء السياسي..

التجرؤ على الدولة
عام 2020، كان عام “الشطحات” و”الخزعبلات” و”التجرؤ” على مؤسسات الدولة، من خلال تلك المشاهد العنترية لكتلة الحزب الدستوري الحرّ، ورئيسته، عبير موسي، التي فعلت كل ما من شأنه تعطيل المؤسسة التشريعية، مستثمرة ــ هي الأخرى ــ الخلافات الحزبية، والصراعات الإيديولوجية القائمة تحت قبة البرلمان، لكي تحيل العمل التشريعي إلى فوضى وعكاظيات سياسية، طالت رئاسة المجلس، التي كان “الديمقراطيون” داخل البرلمان، المبادرون بترذيلها، بسبب أمراض وأحقاد وعقد ثقافية وإيديولوجية، وقع تجاوزها في بلدان المنشأ، فيما أبقى عليها تلامذتها في تونس، سوسا ينخر التجربة الديمقراطية في البلاد..

ضاعت وسط كل ذلك، الأولويات، والتحالفات المبدئية، والرهان على الثورة، لنشهد التقاءات مع ما تبقى من منظومة الاستبداد، في زواج متعة، كل طرف فيه، يحرص على توظيف الآخر في معركة “الأرض المحروقة”، من أجل منع أي توليفة مع حركة النهضة، من شأنها استعادة ولو جزء من المنظومة القديمة (التجمع)، في سردية سمجة، باتت اليوم عبئا على الانتقال الديمقراطي، القابع في سرداب من المشكلات الإقليمية والدولية، بما زاد في تعقيد الوضع الوطني إلى أفق غير واضح المعالم.

الخطر، أن تستحوذ المنظومة القديمة، التي دخلت المشهد من مخرجات الثورة، على ما تبقى من الثورة، فتعيد رسكلتها من جديد، لتعيدنا إلى مربع الاستبداد، وإن بأدوات جديدة، وأسلوب مغاير، ولغة تفوح منها رائحة، لا نتمنى من التونسيين أن يشتموها، لأنّ أنوفهم تأففت من مثلها تاريخيا..

عندما ينتف ريش الفساد..
وفي العام 2020، كانت ملفات الفساد، هي الأمر الطاغي على الخطاب السياسي والإعلامي..
فمن تضارب مصالح رئيس الحكومة المقال، إلياس الفخفاخ، إلى ملف وزراء البيئة والمديرين العامين للوزارة، فيما عرف بقضية “النفايات الإيطالية”، مرورا بما أوردته محكمة المحاسبات من فساد في تمويل الأحزاب للحملات الانتخابية، وصولا عند قضايا نبيل القروي، رئيس “حزب قلب تونس”، الذي يقبع في السجن، بتهمة مزعومة تتعلق بتبييض الأموال والتهرب الضريبي، مع طهورية مزعومة لبعض السياسيين والنواب من كتل عديدة، اعتبرت وجود الرجل في “بوفردة”، كافيا للتشفي منه ومن حزبه، ومن الائتلاف الداعم لحكومة المشيشي.

مشكلة بعض الدول المتخلفة، أنها تتغاضى عن المجرمين الحقيقيين، وهم الأخطر والأعنف والأكثر تعفنا، وتستعيض عنهم بمجرمين “درجة ثانية”، من أجل تلميع سياسي ما، قد تحتاجه بعض الخيارات، لكن المرحلة لا تقتضيه البتّة..

نتمنى مع هذا العام الجديد، ألا ننخرط في محاكمات سياسية، بعناوين الحقد السياسي، والحسابات الحزبية، وتحت يافطة “مكافحة الفساد”، الذي يدبّ ــ على ما يبدوــ في جميع الصالونات والكانتونات السياسية، بلا استثناء..

الجريمة.. والمؤسسة الأمنية
عام 2020، قضت ــ  خلاله، 3 فتيات في عمر الزهور، مريم ورحمة وطفلة الــ 5 سنوات في بالوعات.. أضيف إليها الطبيب الذي سقط في المصعد، في فضيحة عنوانها الإهمال والفوضى القاتلة، والتسيب الواضح في المؤسسات وفي الشارع، الذي عششت فيه دبابير جديدة، تقود حملات العنف والقتل العمد ضمن ما يعرف بــ “البراكاجات” التي لم يجد لها الأمن الموزع والمشتت بين الاعتصامات والاحتجاجات وأمن “الشخصيات المتصارعة”،  النجاعة الكافية، رغم كل الحملات النشيطة على امتداد الأيام، ليبقى “الأمن الاجتماعي”، المطلب الملح، زمن الثورة المغدورة..

ثمة ثقل تواجهه المؤسسة الأمنية منذ الثورة، فالأحداث مكثفة، والمهمات كثيرة، والوزراء يتداولون على المؤسسة، كما لو كان حفل عرض للأزياء، ومع كل وزير مشروع، أو رؤية أو حساب، ضاعت معها إمكانية الاستقرار والبناء طويل المدى، لتجد هذه المؤسسة نفسها في وضع لا تحسد عليه، فيما هي مطالبة بأن تكون في الصف الأمامي، لنشر الآمان الاجتماعي، ومكافحة الإرهاب، والجريمة المنظمة، فضلا عن الأدوار التقليدية، وهي عملية صعبة ومعقدة، في هذا الظرف الدقيق، الذي كثر فيه “المزغردون”، بلا وليمة…

الأضلع الثلاثة في السياسة الخارجية
في 2020، بدت علاقات تونس الخارجية، ضعيفة وهشّة، وتحتاج إلى رؤية أشمل وأعمق، وعقل استراتيجي، بأضلع ثلاثة: البعد الثوري للوضع التونسي، باعتباره استثمارا مهما وجذّابا، والفضاء الجغرا ـ اقتصادي التونسي، المطل على المتوسط وإفريقيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى الأفق المفتوح على تجارب ونماذج في الشرق الأدنى، وآسيا وأميركا اللاتينية…

بدون هذا التفكير، وما يستتبعه من أفق آخر، ربما تملكه الحكومة ورئاسة الجمهورية، والقادر على أن يضع القدم التونسية في مستقبل مختلف، لن تكون لنا أهمية جيو استراتيجية في مرمى السنوات المقبلة، لأنّ علاقاتنا الخارجية ببلدان تقليدية، بدأت تضعف قوتها، وتشهد انتكاسات متتالية داخلية وخارجية، على غرار المثال الفرنسي والإيطالي، فيما دول أخرى ونماذج صاعدة، في آسيا وإفريقيا وأوروبا الشرقية، تبدو مغرية، ويجدر بنا طرق أبوابها، بلا خجل، أو مواربة، ولا خوف من “شركائنا التقليديين”، الذين ارتهنّا إليهم، فلم نتقدّم، وتوقفت ساعتنا معهم عن الدوران، فضاعت بوصلتنا..

الأفق… و”اللوجسيال”
في 2021، على الدولة التونسية، بنخبها وطبقتها السياسية، في الحكم والمعارضة، ومسؤوليها على رأس السلطة التنفيذية بشقيها، ورئاسة البرلمان، أن تخرج من القمقم الذي وضعت فيه نفسها، وأن تتخلص من هذا “اللوجسيال” الذي تأبطته خلال السنوات العشر المنقضية، بمعاركها وإخفاقاتها وانكساراتها وأوجاعها وآلامها وسياقاتها الداخلية والخارجية، وتبني سردية جديدة، بعقل يتجاوز صراعات المرحلة الراهنة وحساباتها الضيقة، باتجاه “لوجسيال” جديد، يتماهى مع المستقبل، فمن لا يفكر في المستقبل، سيجد نفسه بالضرورة، في الماضي، وعليه أن يختار بين حلقات هذا الماضي، التي تشي كلها بالتخلف والاستبداد والفقر الفكري والثقافي والإرهاب السياسي، وغير ذلك..

الخيارات محدودة.. والزمن واحد، واللاهثون خلف التقدم، قليلون، فمن سيركب سفينة المستقبل يا ترى ؟؟  

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى