أحزابأهم الأحداثالمشهد السياسيوطنية

الغنوشي يردّ “بشدّة هادئة” على “مجموعة المائة” التي تطالبه بالتنحي عن رئاسة حركة النهضة

تونس ــ الرأي الجديد

انتقد رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي بشدّة، ما بات يعرف بــ “مجموعة المائة”، التي طالبته بالتنحي عن رئاسة الحركة، وعدم الترشح للمؤتمر القادم، المقرر نهاية العام الجاري.
ودوّن الغنوشي رسالة، حصلت “الرأي الجديد” على نسخة منها، تضمنت ردّا على هذه القيادات، معتبرا أنّ حيثيات مطالبته بالتنحي، غير معقولة سياسيا، وغير ملائمة قانونيا لثقافة الأحزاب وتاريخيتها، داعيا “المائة” إلى التمييز بين ديمقراطية الدول وديمقراطية الأحزاب، وملتمسا من جميع النهضويين، التريث، والحرص على قضايا التونسيين قبل قضايا النهضويين..
وكان ممثلون عن هذه المجموعة، أدوا زيارة في الهزيع الأخير من الليل، ليقدموا له رسالة مطالبته بالتنحي عن رئاسة الحركة، واعتبر الغنوشي، أنّ الطريقة التي توخوها لإعلامه  بقرارهم، وقدومهم المفاجئ ليلاً إلى بيته، “شبيه بما يفعله عادة بعض الجنرالات العسكرية، الذين يأتون فجراً إلى رؤساء الدول لتنحيتهم”، حسب تعبيره.
وكانت رسالة الغنوشي الطويلة، شديدة النقد لمجموعة المائة، لكن في هدوء، وبالتزام تام بأدب الحوار واحترام حق الاختلاف..
وفيما يلي نص هذه الرسالة، التي ستكون لها تداعياتها على المؤتمر واتجاهاته في المرحلة المقبلة..

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

لقد فاجأتني البارحة مجموعة من كرام وكبار إخواننا بزيارة كريمة  طلبها احدهم حسبتها  خاصة به وأن غرضها،  شأن كان حديثنا من أيام ،إلا أنني سرعان ما تنبهت إلى أن الأمر يتعلق بتسليمي رسالة مذيلة بأسماء، لا توقيعات، مائة قيادي يطالبون رئيس الحركة، إعلانه الصريح، أنه ليس معنيا بالقيادة في المؤتمر القادم.
ذكرتني زيارة الإخوة الخمس الكرام، بالزيارات المعتادة لنفر من قادة الجيوش في الهزيع الأخير من الليل، لرؤساء بلادهم، يبلغونهم الأمر بالتنحي. الحقيقة أن الزيارة حصلت وقت صلاة المغرب وليس في الفجر..

الجيد في الرسالة المطولة، أن نسيجها اللغوي جيد ومطرز بمفاهيم الديمقراطية والإسلام. وذلك ما حملني على الوقوف عند بعض هذه المفاهيم وامتحانها، مثل ديمقراطية الأحزاب،

والسؤال الأساسي هنا، هل من لوازم الديمقراطية الحزبية تغيير القيادات في مدد معينة بصرف النظر عن كونهم أصابوا أم أخطأوا !؟ هذا خلط متعمد بين مقتضيات مجالين مختلفين: مجال الحزب ومجال الدولة، تحديد المدد بدورتين معروف في رئاسة الدول الديمقراطية..

أما ديمقراطية الأحزاب، فالتداول المعروف فيها، يتحقق  بالتجديد الدوري أو عدمه لقياداتها، عبر عمليات انتخابية دورية نزيهة، تبنى على تقويمات موضوعية للأداء، فيجدد للبعض دون حد، إذا كان حكم المؤسسات على أدائه إيجابيا، فيدعم أو يعفى إذا الحكم على الأداء كان سلبيا.
إن الأحزاب تستثمر في قياداتها الناجحة، فتدفعها إلى أعلى حتى تنتقل مقبوليتها من المستوى الحزبي، إلى المستوى الوطني، وحتى أوسع من ذلك.. التداول هنا يتم عبر التقييمات المستمرة للأداء، وعبر الانتخابات الدورية، وهو أمر معروف في التجربة الحزبية في المحاضن التاريخية للتجربة الحزبية الديمقراطية: إنجلترا، فرنسا،… وكثيرا ما تتم عملية التداول القيادي في الأحزاب الديمقراطية بسرعة عبر عمليتي التقييم والانتخاب الدوريين دون حاجة إلى وضع قاعدة قانونية تحدد ذلك، سواء تعلق الأمر بقيادات حزبية جهوية (كاتب عام) أم مركزية (شورى) أم نيابيةً، لان السلطة عامل تهرئة طبيعي، فلا يعاد انتخاب القيادات التي قيم أداؤها سلبا وحتى قبل نهاية العهدة.

أما” الزعماء” في الأحزاب الديمقراطية وليس الرؤساء، فهم الاستثناء من القاعدة، لقدرتهم على الصمود في مواجهة عامل التهرئة، العنصر الفاعل في التداول. الزعماء جلودهم خشنة! يتحملون الصدمات ويستوعبون تقلبات الزمان، ويقاومون عامل التهرئة، إذ يتجددون، فيكونوا قوة دفع وتعبئة لشعوبهم وراء أحزابهم، فتظل شعبيتهم وأحزابهم في صعود أو تراجع محدود، حتى يتبوأوا معها مقامات قيادة البلاد، فلماذا يغيرونها وهي في قمة عطائها وإشعاعها داخل البلاد وخارجها؟ أمثال هذه الزعامات تبحث عنها الأحزاب تمييزًا بين رؤساء أحزاب – وما أكثرهم – غالبًا لا تتحملهم أحزابهم لأكثر من دورة، وبين زعماء أحزاب لا يجود الزمان بمثلهم إلا قليلا، فتستمسك بهم أحزابهم وشعوبهم، ولا تحصي عليهم أنفاسهم، تنتظر انقطاعها، وإنما تخشى فقدهم وتتحسر على غروب شموسهم مرددة قول الشاعر:

سيعرفني قومي إذا جدهم 
                    وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ومن أمثلة هؤلاء الزعماء الذين حفظ التاريخ ذكرهم، تزعموا أحزابهم وهم شباب واستمروا في قيادتها وهم شيب، إذ قادوها عقودا إلى قمة المجد والسلطةً: زعيم الديغوليون شيراك وزعيم الاشتراكيين، ميتران وزعيمة الديمقراطيين المسيحيين، ميركل، وزعيم العمال البريطاني، بلار، والنائب العمالي، طوني الذي مكث نائبا في البرلمان البريطاني أكثر من ثلث قرن، والسيد نصر الله، الزعيم، قاد المقاومة منذ شبابه الشيعي…. وبذلك يبدو جليًا فساد الخلط بين قواعد التداول، التي تدار بها الدول، وبين التداول في نظام الأحزاب، كما تبين الفرق بين التعامل مع الزعماء والتعامل مع القادة العاديين (إداريين).
إن الذين يتغطون بالديمقراطية لفرض وصايتهم على المؤتمر 11 بشروط إقصائية مسبقة، لا ديمقراطية، لعله يتحقق بهذا ما عجزوا عنه في المؤتمر العاشر من استبعاد زعيم الحركةً، غير مترددين في ارتكاب خلط آخر شنيع بين مبدأ التداول عبر التجديد والانتخابات الدورية النزيهة وتقويمات للأداء، وبين رئاسة دكتاتورية مؤبدة مدسترة.
كما يخلطون بين الدعوة لمثل هذا التداول، عبر التقويم والانتخاب النزيه المتجددين، وبين ما كان معروفا من مناشدات في ظل الدكتاتورية!! هؤلاء يرتكبون أخطاء منهجية تضليلية شنيعة، تهدف إلى نقل الخلاف من مربعه الأصلي، إلى ساحة أخرى مضللةً. مربع الخلاف الأصلي يدور ليس حول الديمقراطية، وإنما حول تقدير المصلحة، مصلحة البلاد ومصلحة الحركة والأمة، هل هي اليوم في تغيير زعامة الحزب، باعتبارها قد تحولت عبئا على الحركة والبلاد، من الواجب الخلاص منه! وأن الأوضاع قد تهيأت لذلك؟ وما تأثير ذلك على الاستقرار في البلاد والإقليم؟ وماذا يهم الشعب التونسي، وهو في صراع مع الوباء والغلاء، من خلافات النهضة وغسيلها؟ لماذا نشغله بذلك؟ أم أن الأمر على غير ذلك، وأن زعامة الحزب – على ما هي عليه – رصيد للحزب استثمر فيه خلال نصف قرن، حتى تهيأ للمقامات العالية، فهل المصلحة تقويته أم إضعافه؟ هل ما يطالبه به أصحاب الرسالة من إعلان تنحيه عن القيادة في أجل قريب، هو أمر  يقدم خدمة للبلاد وللحزب؟ ولماذا اتخاذ ذلك شرطًا قبليًا للمشاركة في المؤتمر، أليس ذلك مصادرة لإرادة المؤتمرين؟ وإذا كان هناك تهيؤ لمثل هذا التداول، فالمؤتمر هو المناسبة لتقويم الأداء، والحكم على كل القيادات عبر العملية الانتخابية التنافسية. ألا يبدو الأمر وكأنّ هناك تشكيكا في العملية الانتخابية وفي المؤتمرين، إذ يراد الحسم سلفا في هذه المسالة المهمة، دون المؤتمرين، ولماذا أضعنا أوقاتًا وجهودا في مجلس الشورى لانتخاب لجنتين كبيرتين، شرعتا لتوهما في الإعداد للمؤتمر، فلم التعجل ورمي المؤتمر الذي كان مطلوبا بإلحاح ظهريًا، إلا إذا كان القصد فتح الأبواب أمام حلول أخرى، تستبق المؤتمر، لأنها لم تعد تثق في اختياراته. والمسالة مسالة بحث عن ذريعة لشرعنة أمر يراد، في وقت عصيب تمر به البلاد والإقليم.
أرجو أن لا يكون ذلك كذلك…

وختاما أوصي إخوتي وأخواتي.. أبنائي  وبناتي الأحباب.. بالهدوء، وأن يحفظوا عقد الإخوة وآداب الاختلاف ووحدة صفهم، وأمانة دماء الشهداء، ومعاناة عشرات الآلاف من المناضلات والمناضلين، موقنين أنها زوبعة وتمر كما مر غيرها “لا تحسبوه شرا لكم”، شاغلين أنفسكم بهموم شعب تزحف عليه الأوبئة، ويهدده الجوع.

فأن تنير شمعة خير من أن تلعن الظلام.
أنار الله بصائرنا وهدانا إلى التي هي أقوم
 

والله سبحانه نسأل العون والرشد والتسديد.   

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى