أهم الأحداثمقالات رأي

د. خالد شوكات يكتب لــ “الرأي الجديد” عن: جدليّة الدّين والوطن…

 

بقلم / خالد شوكات

 

ثمّةَ أربعة عناصر تتشكَّل منها الأفكار والاتجاهات السياسية التي أنتجها الإنسان، منذ ظهر الاجتماع السياسي في التاريخ. عنصران مصدرهما القلب بكل ما يعنيه من مشاعر وعواطف ووجدان، وعنصران مصدرهما العقل بما يعنيه من انعكاس لصراع المصالح وتسوية النزاعات.

العناصر الأربعة هي: الوطن والدِّين والحرّية والعدالة. ويمكن لأي باحث أن يردّ بسهولة المرجعية الفكرية والعقيدة السياسية لأي تنظيم أو حزب أو جماعة إلى عنصر أو أكثر من هذه العناصر، حيث ظهرت مرجعيات بسيطة، وطنية خالصة أو دينية محضة أو ليبرالية أو اشتراكية، كما برزت أيضاً مرجعيات مركبّة تمزج البعدين القومي والاجتماعي أو الديني والقومي أو الوطني والليبرالي أو الديني والرأسمالي..الخ. وسيظلّ الإنسان يمزج بين هذه العناصر بنِسَب متفاوتة في بنائه لتنظيماته وأحزابه وجماعاته، حسب السياقات التاريخية والمعطيات السياسية والظروف الاقتصادية والاجتماعية، فالميولات الجمعية تتغير مع تغّير الأحوال وتقدّم التاريخ وإبداعات العصر والزمان وخصوصية الموقع والمكان.

من الرابطة العثمانية إلى “القومية”
لقد كانت الرابطة الدينية هي المهيمنة على التفكير السياسي للعرب والمسلمين حتى سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، وكان بعض المفكّرين والقادة السياسيين العرب، بمن فيهم بعض مسيحيي الديانة، شديدو الحماسة لتجديد الرابطة العثمانية وإعادة بناء الخلافة الإسلامية على أسس عصرية. هذا قبل أن يجنح العقل السياسي في المنطقة نحو الرابطة القومية، وينتهي إلى تثبيت الهوية الوطنية القطرية. لقد ظهرت التنظيمات العثمانية والجماعات الدينية في المجال العربي الإسلامي الحديث، قبل أن تتأسس الأحزاب القومية والوطنية. ولا شكّ أن تفاعل العالم العربي الإسلامي وصراعه مع الغرب، ساهم في إحداث التحوّل التدريجي نحو التنظيمات السياسية القومية والوطنية.
إن العالمين العربي الإسلامي والأوروبي الغربي، بقدر ما يبدوان على صعيد التاريخ في صراع دائم، فإنهما الأكثر ارتباطاً وجدلية وتبادلا للتأثير والتأثر الثنائي، فالغرب أيضا تحوّل ابتداء من القرن الخامس عشر عبر حركة الإصلاح الديني، من الرابطة المسيحية الصليبية، إلى الدولة – الأمّة، الأمة بمفهومها القومي والوطني غالبا. وعندما طرق نابليون أبواب القاهرة غازيا في بداية القرن التاسع عشر، لم يقم بزعزعة المفاهيم الدينية السائدة في الشرق فحسب، بل أعلن بداية ذلك التحوّل الذي عرفه الغرب قبل قرنين من الزمان، وسيعرفه العالم العربي الإسلامي ابتداء من ذلك التاريخ تدريجيا.
لقد حاول المفكرون العرب والمسلمون الذي بدأوا التفكير في الإجابة عن سؤال التخلّف، من قبيل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان وغيرهم، إنقاذ المرجعية الدينية الخالصة، في إطار حرصهم للمحافظة على إطار الخلافة الإسلامية، لكن ذلك لم يجد نفعاً، اذ بدا أن زمن الدول الدينية قد بدأ في الأفول مؤذنا بقيام الدول على أسس قومية ووطنية، وقد ساهم الاستعماران الانجليزي والفرنسي للمجال العربي الإسلامي في طيّ صفحة الخلافة العثمانية نهائيا، باعتبارها آخر نسخة للرابطة الإسلامية المستمرة منذ زمن الخلافة الراشدة قبل أربعة عشر قرنا، والتأسيس لعصر الدولة الوطنية والقومية.

اضطراب الديني بالوطني في الغرب
لقد أزالت الدولة العلمانية في الغرب كلّ توتُّرٍ بين الوطن والدِّين، وحصرت الصراع بين عنصري الحرّية والعدالة، وعلى هذا الأساس قامت الأحزاب المطالبة باحترام الملكية الفردية والمبادرة الخاّصة، في مقابل أحزاب جعلت غايتها الأسمى تحقيق العدالة الاجتماعية، حتّى استقرت التنظيمات السياسية بعد الحرب العالمية الثانية إلى ثنائية الأحزاب المسيحية الديمقراطية المحافظة والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. أمّا الدين فقد انسحب لوظيفته الأصلية، التي يقدّمها للمؤمنين والفقراء والمحتاجين، وظيفة روحية وأخلاقية واجتماعية حصرًا. وعلى امتداد قرون تقريبا، لم يحدث أي اصطدام بين عنصري الوطن والدين في الغرب إلا نادرا، وفيّ حالات تأزم وتطرّف وتشدد محدودة في الزمان والمكان. فإذا اعتبرنا التجارب الشيوعية السوفيتية والنازية والفاشية جزء من التاريخ الغربي، كان بمقدورنا الإشارة لها كتجارب شاذة اضطربت فيها الصلة بين الديني والوطني، وفقد فيها الإنسان الغربي ذلك المحدّد الثابت لعقله السياسي، ممثلا في تكامل أو عدم تعارض هذين المحددين.
التنظيمات السياسية في تونس كانت وليدة القرن العشرين، فخلال القرن التاسع عشر كان الشأن السياسي حكرا على النخبة كأفراد لا كجماعات. وكانت حركة الشباب التونسي التي تأسست سنة 1907، محاكاة لحركتي تركيا الفتاة ومصر الفتاة أولى هذه التنظيمات. ولا يمكن القول بوجود مرجعية محددة وصارمة لها فيما يتصل بالعلاقة بين الوطني والديني، فإلى حدّ ذلك اليوم ما تزال الرابطة العثمانية فاعلة، وكانت النخب الإصلاحية في غالبية المجال العربي الإسلامي تراهن على إصلاح الخلافة الإسلامية من خلال إعادة بنائها على أساس اتحادي، فيدرالي، أو كونفدرالي، ولم ينضج البعد الوطني، بمعنى الوطن القطري الذي سيشكل قاعدة للدولة الوطنية القطرية إلا لاحقا، خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتحول الخلافة العثمانية إلى رجل مريض، ميت سريريا ينتظر المنتصرون في الحرب إعلان وفاته.

البعد الإصلاحي الديني
يمكن القول بأن الحزب  الحر الدستوري  الذي تأسس على يد الزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 أوّل تنظيم سياسي بالمعنى العصري للكلمة. وقد تميّزت مرجعيته الفكرية وعقيدته السياسية بنزعته التوفيقية بين عنصري الوطن والدِّين، شبيه في بنيته بشخصية مؤسسه الرئيسي التي جمعت بكل انسيابية وانسجام بين البعد الإصلاحي الديني باعتباره شيخا زيتونيا والبعد الوطني باعتباره مناضلا سياسيا يكافح من أجل تحرر بلده من ربقة الاستعمار. ولعلّ تفحّص سير المؤسسين الذين كانوا رفقة الشيخ الثعالبي سيقفون على ذات الخيط الرابط بينهم جميعا، أي أنه لا تناقض في ضمائرهم وعقلهم ووجدانهم بين القضيتين الوطنية والإسلامية، فهي عندهم قضية واحدة، فهم لم ينظروا لمقاربة الوطن تلك النظرة العلمانية الراديكالية التي تجعله نابذا متفصّيا من القيم والمبادئ الإسلامية، كما لا ينظرون للإسلام من منطلق ثيوقراطي، بل منطلق إصلاحي تجديدي وعامل مساعد على التوفيق بين مستلزمات المعاصرة ومقتضيات الأصالة.
إن الشُّقَّة بين البعدين الوطني والديني وجدت لها أرضية في انشقاق حزب الدستور إلى حزبين ابتداء من سنة 1934، حيث ظهرت مجموعتان متنافستان، بدا كما لو أنّ كل مجموعة فيهما ترتب الأولويات ترتيبا مختلفا، فجاء ترتيب الوطن سابقا على ترتيب الدين عند مجموعة الديوان السياسي بزعامة الرئيس الحبيب بورقيبة التي أخذت صبغة تقدّمية جرّاء تكوينها التعليمي العصري، ومنح الدين مكانة علوية أسمى من الوطن عن مجموعة اللجنة التنفيذية بزعامة الشيخ محي الدين القليبي التي أخذت الصبغة المحافظة من خلال تكوينها الزيتوني.
لكن هذا التباعد لم يكن جازما وصارما بين البعدين الوطني والديني إبان ظهوره في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث لم يخلو من تداخل، لكنّهُ سيتوضّح تدريجيا لعوامل إيديولوجية مبدئية أحيانا، ولاعتبارات مصلحية برلمانيا أحيانا أخرى، كلّما اقتربنا من ساعة التحرّر من المستعمر وإعلان الدولة المستقلّة، فقبيل هذه الساعة بقليل، وتحديدا سنة 1955، شهد حزب الدستور الجديد انشقاقا جديدا، انقسم خلاله إلى مجموعة الديوان السياسي برئاسة الحبيب بورقيبة ومجموعة الأمانة العامة بزعامة صالح بن يوسف، وتحوّل الى صراع مسلّح بين الشقين اليوسفي والبورقيبي، تقاتل فيه الأشقاء وسالت فيه الدماء، وهو ما زاد من تعميق الهوّة بين التيارين، تيار الهوية وتيار الدولة.

الرؤية البورقيبية
انتصار الرؤية البورقيبية التي تسلّمت مقاليد الحكم بعد الاستقلال، وسرعان ما ستثبّت أركان هيمنتها على الدولة الناشئة، خصوصا بعد الانقلاب الأبيض على النظام الملكي بما يعنيه من تقاليد وأعراف سلطانية عريقة، وإعلان الجمهورية التي توّجت إعلان انتصار المقاربة الوطنية التقدمية على حساب المقاربة الدينية المحافظة، جميعها عوامل زادت من تعميق الهوّة.
لقد صيغت الدولة التونسية المستقلة إذًا على أسس وطنية عصرية حداثية، وجعلت من مسألة الهوية الدينية والثقافية شأنا سلطويا محددا يعكس أفكارا غربية علمانية مستبطنة لدى القيادة السياسية الجديدة للبلاد، وهو ما قاد عمليا إلى مزيد من التباعد بين طرفي الدائرة.
العقود اللاحقة من عمر الدولة المستقلّة ستشهد ظهور مزيد من التوتّرات ذات الصلة بجدلية الدين والوطن، حيث سيبلغ التباعد مداه بظهور تيّار ديني إسلامي في البلاد سيدخل غمار صراع حاد مع الدولة الوطنية البورقيبية خلال عقد الثمانينيّات، قبل أن يتحوّل هذا الاصطدام إلى صراع وجودي خلال عقد التسعينيات بين نظام الرئيس بن علي وحركة النهضة الإسلامية.
القرن الحادي والعشرين حمل تحوّلا في اتجاه اقتراب طرفي الدائرة، فنظام بن علي نفسه سيعرف خلال السنوات الأخيرة ما قبل سقوطه بروز اتجاه ديني خفيف أعلن عن وجوده تدريجيا، فيما أظهرت الحركة الإسلامية بعض الليونة الأيديولوجية والاستعداد للمراجعة وتبني موقف أكثر حداثية، على الأقل من خلال تبنيها المقاربة الديمقراطية والحقوقية المستندة أساسا إلى مرجعية وطنية حادثة.
من منظور تاريخي بمقدور المفكّرين قراءة اللحظة الثورية باعتبارها، لحظة اقتراب إغلاق الدائرة، بمعني لقاء طرفي المعادلة، الوطن والدين، وقد شجّعت نظرية الجدٌ المشترك (الشيخ عبد العزيز الثعالبي) ولقاء باريس بين الشيخين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي وتجربة الحكم المشترك بين حزبيهما النهضة والنداء، على الاعتقاد بقرب ظهور مشروع سياسي جامع يبشّر بمشروع حضاري وطني جديد ينهي القطيعة المفتعلة بين عنصري الهوية وينزع التوتر والاضطراب بين بعدين أساسين، ويساعد على دفع الحياة السياسية في الاتجاه السليم، أي نحو التنافس البرامجي من اجل التنمية والتقدم والإجابة عن السؤال المركزي المطروح منذ قرنين على الأقل: لماذا تخلٌف المسلمون وتقدّم غيرهم؟

** ناشط سياسي وكاتب

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى