أهم الأحداثمقالاتمقالات رأيوطنية

تسع سنوات من الثورة..التجربة والخطأ

   بقلم: خالد شوكات

 

شكّلت الثورة التونسية “باكورة” جيل جديد من الثورات، جيل ثورات القرن الواحد والعشرين، وهي ثورة غير تقليدية بامتياز، قياسا الى الثورات التقليدية التي عرفها العالم خلال القرن العشرين، الى درجة ان البعض يشكّك في “ثوريتها”، اي في الاعتراف بها كثورة، ذلك ان هذا البعض ما يزال يصرّ على أنها كانت مجرّد “انتفاضة”، بالنظر الى افتقادها للقيادة والبرنامج، بينما يرى المتحمّسون لها انها ثورة بأتم معنى الكلمة مادامت لم تكن انقلابا عسكريا وأفلحت في إسقاط النظام السياسي واستبداله -ولو تدريجيا- بنظام سياسي جديد.

وبصرف النظر عن هذا الجدل الذي لن ينتهي حول حقيقة الثورة التونسية وطبيعتها، فإن الثابت من التاريخ أن الثورات قد ارتبطت الى حد كبير بمآلاتها، أي بعمق التغيير الذي تحدثه على المجتمعات والافراد، والقطيعة التي تجريها مع التاريخ السابق عليها، حتى ان البعض ما يزال يتحدّث عن مآل الثورة الفرنسية التي جرت قبل اكثر من قرنين، باعتبار تأثيرها الذي ما يزال ساريا في الانسانية، وتوجيهها للفكر الإنساني، ومن هنا فإن “مآل” الثورة التونسية هو الذي سيعزّز في رأيي قيمتها الوطنية والانسانية، أو ينقص منها الى درجة قد يحوّلها الى نقطة سوداء في خط التاريخ التونسي، وهذه مسؤولية التونسيين في منح قيمة لأحداث تاريخهم من عدمه.
لقد كان للثورة التونسية مقدّمات مشجعة وممهدة من منظور التاريخ الإنساني، فثورات شعوب اوربا الوسطى والشرقية بداية التسعينيات، وما جرى في جنوب افريقيا، ثم في تشيلي وعدد من دول امريكا اللاتينية في النصف الثاني من ذلك العقد، واخيرا ما حدث في العراق ثم في أوكرانيا وجورجيا وعدد من دول اسيا الوسطي في مطلع القرن الواحد والعشرين، شكّلت سياقا تاريخيا مميزا للثورة التونسية، التي شكّلت منعطفا مهما لمن سبقها ممن أشير اليه، ولما بعدها من ثورات ما يسمى بالربيع العربي، والتي انتهت في غالبيتها إلى الفشل بالمعنى “الحيني” للكلمة.
المعطى الثاني المهم في الحكم على الثورات، هو “المسارات” التي تقود الى “المآلات”، والمسارات كما اثبت تاريخ الثورات ليست خطوطا مستقيمة أبدًا، بل انحرافات ومنعطفات وهبوط وصعود ونجاحات وإحباطات، ففي مسارات الثورات التقليدية عادة ما يتحوّل المسار الثوري الى مجال للصراع بين “الثورة” و”الثورة المضادة”، لكنَّ هذه المقاربة لا تصلح في رأيي في تحليل الجيل الذي تندرج الثورة التونسية في سياقه، حيث يجدر بِنَا تطوير مقاربات جديدة لهذه الثورة – ونظيراتها السابقة عليها واللاحقة، والتي تحوّل فيها “المسار الثوري” الى “مسار الانتقال الديمقراطي”، وانطلاقا من هذه المقاربة تصبح كلّ قوة سياسية – وان كان جذرها ضارب في المنظومة القديمة- قرّرت الانخراط في مسار الانتقال الديمقراطي قوّة ثورية او هي جزء من “الثورة” وليست جزءا من “الثورة المضادة”، بل ان حالات الانتقال الديمقراطي التي جاءت نتاج تطور الفكر الإنساني قد اعتبرت ناجحة بقدر استيعابها وإقناعها لمن تصنّفهم ادبيات الثورات التقليدية في خانة الثورة المضادة وقوى الردّة.
لكن هذه الرؤية التجديدية التي اعتمدت على مقاربة الانتقال الديمقراطي، لن تعدم الإسئلة الكبرى المطروحة في سياق الثورة التونسية، التي ما تزال دون اجابة منذ بدأ البعض يلاحظ انحرافها من انتفاضة ذات مضمون اقتصادي واجتماعي في المقام الاول، الى ثورة ذات مضمون سياسي يكاد يكون خالصا، ومن حلم شبابي بالكرامة والعدالة الاجتماعية الى مشروع نخبوي ركَّز بالأساس على تطلعات الفئة القليلة في بناء نظام سياسي جديد يستند الى التعددية والحريات العامة وحقوق الانسان، ومن هنا نبدو اليوم في حالة صراع حقيقي بين الحلم الشعبي والتطلّع النخبوي، سواء على مستوى الافكار وفيّ مجال المصالح.
لا شكّ ان النظرة “الحينية” الضاغطة قياسا بالنظرة “التاريخية”، ستقود الى نتائج منفّرة من قبيل هذا النقد الشديد لأداء مؤسسات الحكم، وما يراه البعض فشلا ذريعا في احداث اي تغيير على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، حيث ازداد الأغنياء ثروة وازداد الفقراء عوزًا وحاجة، وتعطلت جميع مشاريع الاصلاح المطلوبة، وحيث بقيت مراكز النفوذ المالي والاعلامي والمناطقي على حالها، لكن النظرة التاريخية من شأنها ان تخفف نسبيا الغلواء، فالتغيير العميق يتطلب زمنا أطول وجهودا اكبر، وهو امر بتصل بنيويا بطبائع العمران البشري والاجتماع السياسي والطبع الثقافي..
خلال تسع سنوات من الثورة، اتبعنا فيها اُسلوب التجربة والخطأ، علينا ان ندرك ان مسار الانتقال الديمقراطي هو مجرد خطّ من مسار اعرض هو المسار الثوري، وان التعويل على الانتقال الديمقراطي لاحداث التغيير الاجتماعي والاقتصادي المطلوب يقتضي تخصيص مجال زمني اكبر، وهو عملية اعقد كثيرا مما توقعه البعض جراء تناقض المصالح وهشاشة الأوضاع السياسية مثلما هو معروف في مراحل التحول الديمقراطي.. ناهيك ان حجم الخطأ يكاد ينسف التجربة من جذورها في بعض الأحيان، وهو ما يدخل الخوف على قلوب الديمقراطيين ويرتهن النتيجة للقدر الذي يصعب تعريفه علميا، ذلك انه ليس قدر الثورات النجاح تاريخيا وان نجحت في إسقاط أنظمة عاتية ما كان المرء يتوقع سقوطها يوماً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باحث وناشط سياسي

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى