أهم الأحداثبكل هدوءمقالاتوطنية

“حكومة كفاءات مستقلة”… تجاوز للدستور وضرب للمشهد الحزبي.. وقفز على مسار الانتقال الديمقراطي

 

بقلم / صالح عطية

 

دخل المشهد التونسي منعرجا جديدا، لكنّه خطير بكل معنى الكلمة، بعد أن أعلن رئيس الحكومة المكلف، السيد، الحبيب الجملي، نزوعه لتشكيل ما أسماه بــ “حكومة كفاءات مستقلّة”، على خلفية فشل المشاورات مع عدد من الأحزاب، أبرزها، “التيار الديمقراطي”، و”حركة الشعب”.

وتنص فصول الدستور التونسي، على أن يقوم الحزب الفائز، بمشاوراته مع الأحزاب القريبة منه، في مستوى النتائج، لتشكيل حكومة، تقود مرحلة محددة دستوريا بخمس سنوات، وفي صورة فشل رئيس الحكومة المكلف خلال شهرين، يحال الأمر إلى رئيس الجمهورية (الفقرة الثانية من الفصل 89 من الدستور)، الذي يكلف شخصية جديدة تتولى المشاورات مع الأحزاب والكتل البرلمانية، لتشكيل حكومة في غضون شهر.
وفي كلا الحالتين، لا مناص لرئيس الحكومة المكلف، من الاعتماد على الأحزاب، وعلى نتائج الانتخابات، والقيام بمشاورات على هذا الأساس الدستوري الصميم.. فتلك مقومات النظام السياسي في تونس، الذي يقوم على “نظام برلماني معدّل”، بما يعنيه من تعددية حزبية، وانتخابات تعددية، تفضي إلى حكم حزب أو ائتلاف من الأحزاب.
وما أعلنه رئيس الحكومة المكلف، أمس الأول، يعني، قفز على مسار دستوري واضح، وانتقال غير مبرر من مقتضيات النظام البرلماني، إلى (فكرة)، مجرد (فكرة)، عنوانها “حكومة كفاءات مستقلّة”، بما يضع السيد الحبيب الجملي، في مأزق دستوري حقيقي، وربما يجعل منه الشخصية الأولى التي تسجّل تجاوزا قانونيا ودستوريا، منذ اعتماد دستور 2014.

تاريخية المفهوم
لا بد من الإشارة في هذا السياق، إلى أنّ فكرة “حكومة كفاءات مستقلّة”، ولدت من أرحام الوضع السياسي اللبناني، الذي يقوم على نظام طائفي، بلغ أزمة خانقة في مرحلة ثمانينات وتسعينات القرن المنقضي، دفعت بعض نخبه إلى “ابتكار” فكرة “الكفاءات المستقلّة”، للخروج من قمقم الأحزاب والطوائف، وبناء سياق سياسي جديد، وظلت هذه الفكرة، تراود الطبقة السياسية اللبنانية طيلة أربعة عقود، استطاعت من خلالها، الخروج من أزمات سياسية عديدة في مراحل مختلفة، دون أن تتحوّل إلى بديل عن النظام البرلماني، فقد كانت مجرد حلّ وقتي، وبالتالي فعملية استدعاء هذا “النموذج” الذي يواجه في لبنان بالذات، الكثير من الانتقادات، لا تبدو عملية ناجعة في وضع تونسي مغاير تماما للشأن اللبناني، بل هو بات سابقا لتجارب وأنماط حكم عربية أخرى، بكل تمظهراتها.
فماذا تعني “حكومة كفاءات مستقلة”، من الناحية السياسية والدستورية والقانونية، وفي سياق ما نسميه جميعا بــ “الانتقال الديمقراطي”؟

ـــ
إنها قفز على نتائج الانتخابات، التي أفرزت قوى سياسية وحزبية معيّنة، يفترض أن يجد رئيس الحكومة المكلف، طريقة أو أسلوبا للتأليف فيما بينها، وتشكيل حكومته في أريحية، لا تبدو صعبة ومعقدة إلى الدرجة التي وضع فيها نفسه اليوم.
ـــ وهي قفز كذلك، على النظام السياسي برمته، الذي يقوم ــ كما قلنا ــ على الأحزاب، ويوكل لها أمر الحكم وإدارة دفة الدولة..
ـــ بل إنّ السيد رئيس الحكومة المكلف، “يوقّع” على ضرب مفهوم الحزب، وعلى معنى الانتماء الحزبي، المنصوص عليهما دستوريا.. إذ ماذا يعني، أنه سيقصي كل من يثبت انتماؤه لحزب، من بين المستقلين الذين سيختارهم ؟ أليس هذا ضربا للانتماء الحزبي، الذي يعدّ حقا حقوقيا ودستوريا لا مجال للاختلاف حوله، بنص الدستور والمواثيق الحقوقية العالمية التي صادقت عليها تونس منذ سنوات عديدة ؟؟
ـــ وهذه “البدعة” المستوردة، تؤدي في المحصلة، إلى الطعن في الديمقراطية ذاتها، وتحيل الطبقة السياسية والرأي العام في تونس، ومسار الانتقال الديمقراطي، إلى نوع من اللامعنى، وكأنّ التجربة التونسية الوليدة في مجال التأسيس الديمقراطي، قد استهلكت وانتهت سلبيا، وعلينا البحث في سياقات سياسية وقانونية جديدة، وهو ما يتماهى مع المقولات التي تطعن في الثورة التونسية، وتطالب بالنكوص على مخرجاتها، وبخاصة النظام السياسي والمسألة الديمقراطية ودور الأحزاب السياسية..
إننا أمام ما يشبه “الانقلاب الناعم”، على مسار 9 سنوات من المخاض الديمقراطي وتقلباته الكثيرة..

الديمقراطية التونسية في مأزق   
ـــ نعم، لا نعتقد أنّ السيد الحبيب الجملي، يقصد ذلك البتّة، وقد لا يكون الأمر دار بخلد الرجل أصلا، لكننا أمام خيار خطير، يجعل من الديمقراطية، والنظام البرلماني، والمشهد الحزبي، كما لو أنّه منديل يمسح فيها السياسيون تقديراتهم الخاطئة، ورؤاهم غير العقلانية، التي تميل إلى سياسة الإرضاء والمحاصصات الوزارية، واعتماد الحكم كغنيمة مصالح، قبل أن يكون إدارة للدولة، بما تعنيه من مراكمة للمكتسبات والمنجزات..
إنّ النظام السياسي اليوم، بهذا الخيار الذي أعلن عنه السيد الجملي، يضع التجربة التونسية “بين قوسين”، بل يضع أساس النظام السياسي الذي اختارته الطبقة السياسية إبّان الثورة التونسية، محلّ تساؤل كبير: هل نستحق أن يكون لنا نظام ديمقراطي، وشأن حزبي، ومشهد سياسي حقيقي، أم علينا أن نعود إلى منطق “حكومة الكفاءات الوطنية”، و”حكومة المصلحة الوطنية”، و”حكومة الإنقاذ الوطني”، وما إلى هنالك من هذه “الخزعبلات السياسية”، واستبعاد الأحزاب من موطن القرار السياسي..
ـــ يضاف إلى كل هذا، ملحوظة شديدة الأهمية، وهي أنّ النتيجة التي خلص إليها السيد الحبيب الجملي، والتي ندرك أنها جاءت بعد مشاورات تخللها الكثير من “المراهقة السياسية”، من بعض الأحزاب، تحيلنا على سؤال أساسي، هو: لماذا أجرينا انتخابات حينئذ ؟ ولماذا أنفقت المجموعة الوطنية من المال العام، نحو 400 مليار من المليمات التونسية أو تزيد (بين نفقات هيئة الانتخابات و”الهايكا”، والتمويلات الحزبية، ومنظمات المجتمع المدني، وما أنفق على الإعلام)، ثم ننتهي إلى اعتماد نتائج أخرى مغايرة تماما لمخرجات هذه الانتخابات، ألا يرتقي هذا إلى مستوى “الفساد” بمفهومه السياسي، وأدواته
المالية ؟
من حقّ المعطّلين عن العمل، والبؤساء وأصحاب الخصاصة، أن يتساءلوا عن هذه النفقات التي ستصبح بدون مبرر.. وستتحوّل إلى سؤال الفساد بكل ما يعنيه من معنى..
إنّ الأموال التي أنفقت على الماكينة الانتخابية ومخرجاتها، يمكن أن تفتح مشروعات اقتصادية واجتماعية ضخمة، قادرة على تحريك دواليب اقتصادية في جهات مهمشة و”مهشمة” تنمويا، ــ دون أية شعبوية ــ إذا ما انتهينا إلى هذه الحصيلة من الخيارات التي تحتاج من رئيس الحكومة المكلف، والحزب الذي عيّنه، المراجعة الفورية، فالمشهد السياسي، مفتوح على خيارات كثيرة، بعيدا عن منطق “حكومة الكفاءات”..

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى