1.المشهد الثقافيأهم الأحداثبانوراماحقوقياتوطنية

في كتابه “المراقبة والمعاقبة”: عبد اللطيف الحناشي يفكك جزء من التراث العقابي للاستعمار الفرنسي في السجون التونسية والجزائرية

ـــ سردية تاريخية وحقوقية سالبة للدور الفرنسي في تونس والجزائر

تونس ــ الرأي الجديد

ظلّ الاهتمام بدراسة النظام العقابي، بنوعيه السياسي والحق العام للفترة الاستعمارية في البلاد التونسية، غائبا عن التناول، وذلك عكس الفترة السابقة (الحديثة)، كما غاب هذا الحقل عن تناول المؤرخين الفرنسيين لفترة طويلة نسبيا، قبل أن يبرز النقاش حوله في فرنسا بعد مرور نصف قرن على مجزرة سطيف (الجزائر 8-5-1945)، بما فتح المجال إلى مراجعة المرحلة الاستعمارية ونقدها بشكل واسع نسبيا.

وصدرت بعض الكتابات التي أدانت أنواع العقاب المسلّطة على السكان الأصليين، وعلى الأشكال المختلفة لممارسة التعذيب والمجازر، التي ارتكبت في عهود الاستعمار الفرنسي بالجزائر، دون المستعمرات التونسية والمغربية…

 

فرنسا مرتبكة
ورغم أهمية تناول السياسية العقابية الفرنسة بالجزائر، فإنّ هذا التناول، كان أحادي الجانب وجزئيّا، في الزمان والمضمون والمجال. ورغم محدودية تناول السياسية العقابية الاستعمارية الفرنسية تلك، فإنّ ما كُتب حول هذا الموضوع أثار سجالا واسعا.
إذ شكّل حرجا لبعض الساسة والإداريين الفرنسيين، وإمعانا في التشفي عند بعض الجلادين،  وإحياء لذكريات أليمة عند بعض الضحايا أو عائلاتهم، وهو ما مثّل إزعاجا بل وارتباكا لعدة أطراف في المجتمع الفرنسي. ويظهر أن ذلك (بالإضافة إلى عوامل أخرى)، قد قاد الطبقة السياسة الفرنسية الحاكمة، إلى إصدار قانون 23 فيفري 2005، الذي يفرض على المؤسسات التربوية والجامعية، تمجيد الحضور الاستعماري الفرنسي في ما وراء البحار، وفي شمال إفريقيا، وإبراز “الدور الايجابي” لتلك الممارسة، والتضحيات الجسام للجيش الفرنسي، وهو ما  ولّد ردود فعل متنوعة، أهمها، تلك العريضة التي بادر بصياغتها وترويجها المؤرخ الفرنسي كلود ليوزي، واعتبر المؤرخون الموقف الرسمي الفرنسي، تدخّلا في شؤون “التاريخ”، ومحاولة لتوجيه الأحداث والمعطيات لمصالح سياسية، لذلك طالب البعض ترك تلك الأمور للمؤرخين، للتدقيق في المعطيات والحقائق والحقيقة، ومن ثم تحديد المسؤوليات…
ولا شك أن ما أثارته تلك القضايا من نقاش وجدل واحتجاجات، إنما يبرز مجددا أهمية الكتابة التاريخية وتأثيرها على الحاضر، بأبعاده المختلفة، سواء في النطاق الوطني أو الدولي.
حاول الباحث والمؤرخ، عبد اللطيف الحناشي، المغامرة في البحث حول هذا الحقل منذ سنة 1992، انطلاقا من البحث عن معالم تلك السياسية العقابية، من زاويتها السياسية، وتحديدا البحث في أحد أشكالها، أي الإبعاد السياسي (المراقبة والمعاقبة بالبلاد التونسية: الإبعاد السياسي أنموذجا 1881-1955، الصادر عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية / صفاقس ــ تونس 2003).
وعالج في هذا الكتاب، معالم هذه السياسة من زوايا وأشكال أخرى، ليس على التونسيين فقط، بل على المقيمين الأجانب عربا وأوروبيين ومستوطنين..

بين السياسي.. والحق العام
ولم يكتف الكاتب بالاهتمام بالعقوبات ذات الطابع السياسي، بل حاول معالجة السياسة العقابية تجاه قضايا “الحق العام”، وذلك بالتركيز على دراسة عقوبة السجن والنفي (خارج تونس)،  والتعذيب أيضا.
وجاء هذا الكتاب في  نحو 285 صفحة، وضم مجموعة هامة من المصادر الأرشيفية الإدارية (التونسية والفرنسية)، المخطوطة والمنشورة، باللغتين العربية والفرنسية، إلى جانب 3 فهارس،  ونحو 44 جدول، وبعض الرسومات البيانية، وقد توزّع متن الكتاب بين مقدمة عامة وخاتمة عامة، وقسمين اثنين.

فصول أساسية وبارزة
واشتمل القسم الأول، الذي جاء تحت عنوان “السياسة العقابية الاستعمارية الفرنسية إزاء التونسيين”، على خمسة فصول، هي:
ـــ الأول، أسس النظام العقابي للإدارة الاستعمارية وإستراتيجيته..
ـــ الثاني، الاستعمار الفرنسي وحدود تحكّمه في المجال أمنيّاً: مدينة تونس خلال فترة ما بين الحربين أنموذجاً..
ـــ الثالث، السجن وظروف المساجين التونسيين الصحية بين 1920-1929..
ـــ الرابع، المنفيون التونسيون في الغويان..
ـــ الخامس، الحياة اليومية للمساجين السياسيين التونسيين بالسجون الفرنسية بالجزائر: 1955- 1939).

وأما القسم الثاني، فقد جاء تحت عنوان: السياسة العقابية الفرنسية إزاء المستوطنين والمقيمين الأجانب والعرب، وضمّ 6 فصول، هي:
** الفصل الأول: الإطار القانوني للسياسة العقابية الفرنسية إزاء الأجانب المقيمين..
** الفصل الثاني: الإبعاد تجاه الفرنسيين خلال الحرب العالمية الثانية..
** الفصل الثالث: إبعاد الإيطاليين بعد انتصار قوات الحلفاء بالبلاد التونسية..
** الفصل الرابع: الإبعاد تجاه البريطانيين بالبلاد التونسية خلال الحرب العالمية الثانية..
** الفصل الخامس: الإبعاد في مواجهة النشاط السياسي للجزائريين المقيمين بالبلاد التونسية: (1911-1939..
** الفصل السادس: سجناء الحق العام من العرب في السجون الفرنسية بتونس..
من ناحية أخرى، تضمن الكتاب أيضا، تحديدا دقيقا لعيّنات مختلفة للمواصفات الاجتماعية والثقافية والجغرافية للسجناء والمنفيين التونسيين والعرب والأجانب، بالإضافة إلى تحديد وتحليل طبيعة المخالفات التي تمت معاقبة أصحابها، ومناقشة القوانين التي اعتمدتها السلطات الإدارية والقضائية الفرنسية بتونس، لمعاقبة هؤلاء، وخاصة كيفية إسقاطها لقوانين فرنسية لا تتلاءم وطبيعة المخالفات التي تم ارتكابها في تونس.
وعالج الباحث، عبد اللطيف الحناشي، في هذا المؤلف الضخم نسبيا، من حيث المادة التاريخية والسياسية والاجتماعية، آثار تلك العقوبات على الأفراد والأسر، وكيفية تحوّل السجن أحيانا، إلى مدرسة لتخريج مناضلين وطنيين، بفضل بعض سجناء الحركة الوطنية..
الكتاب الجديد، للأستاذ الحناشي، ينضاف إلى سلسلة الإنتاجات التي أثرى بها المكتبة التونسية والعربية، عبر إسهاماته العميقة، التي تتجاوز إطار الكتابة العادية، إلى مستوى التأليف العميق، الذي ينبش في الذاكرة وفصول التاريخ، وتقلبات الحاضر..

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى