أهم الأحداثمقالات رأي

تأمّلات في أحداث ما بعد وفاة الرئيس..

  بقلم / د. الصادق الحمامي

** أكاديمي وباحث متخصص في الميديا

انتظرت أسبوعًا لأكتب هذا النص بعد محاولات عديدة لم تفض إلى شيء. ماذا يمكن أن نكتب عن الباجي قايد السبسي بعد أسبوع من رحيله، بعد عشرات البرامج في التلفزيون والإذاعة التي تناولت حياة الرئيس الراحل ومسيرته السياسية. ورغم ذلك كان هذا النصّ الذي يجمع بعض التأملات في شخصية الباجي قائد السبسي من منظور الميديا والاتصال.

كيف أصبح الباجي زعيمًا؟

الباجي قائد السبسي شخصية فريدة عايشت عصورًا متباينة. درس الحقوق في السوربون عندما كانت تونس تحت الاستعمار الفرنسي ثم تقلّد وزارتي الداخلية والخارجية زمن بورقيبة. وفي السنوات الأولى من حكم بن علي كان رئيس مجلس النواب. أسابيع بعد سقوط النظام الأسبق، قبل الباجي قائد السبسي مسؤولية الوزارة الأولى ثم أصبح عام 2014 أوّل رئيس جمهورية ينتخب انتخابًا ديمقراطيًا بالاقتراع المباشر في تاريخ تونس.
عايش الباجي قائد السبسي عصورًا وسائطية مختلفة: عندما كانت الجريدة أساسية في حياة الناس، ثم عند ظهور التلفزة عام 1966 وبعد الثورة لم يكن ليحكم دون أن تصله أصداء فيسبوك.
هكذا يمكن أن نقول إن الباجي قائد السبسي هو مزيج من العصور ومن الثقافات السياسية ومن المرجعيات ومن التجارب. فلا غرابة إذًا أن الباجي قائد السبسي لم يكن في حاجة حقيقة إلى خطط اتصالية أو إلى خبرات تقنية في التسويق حتى يتحوّل إلى زعيم بل كان يستمد بريقه من هذا المزيج الفريد الذي يمثله والذي أتاح له أن يحظى بانتخاب التونسيين.
وإذا كان لا بد من دروس مستخلصة من تجربة الباجي قائد السبسي من منظور الاتصال فإن الدرس الأساسي هو أن الزعامة في الديمقراطية ليست فقط صنيعة وكالات التسويق ودهاء خبراء الاتصال وفطنة أدمينات صفحات فيسبوك، لأنها تحتاج قدرًا كبيرًا من الأصالة التي قد يفتقدها أغلب السياسيين الجدد الذين يثقون في الماكينات الاتصالية أكثر من ثقتهم في قدرتهم على مخاطبة التونسيين بكل شجاعة ووضوح.
أصبح الباجي قائد السبسي زعيمًا لأنه كان نفسه، لأنه لم يكن يشبه أحدًا آخر ولم يكن ينتظر أن تحوله ماكينة اتصالية إلى رئيس ضروري ينتظره التونسيون دون غيره.

وسطاء الباجي الجدد

توفي إذًا الباجي قائد السبسي لكنه لن يغيب عنّا. أصوات عديدة بدأت تتحدث باسمه وتسرد ذكريات معه. هؤلاء سيتحولون تدريجيًا إلى وسطاء بيننا وبين الباجي قائد السبسي. هكذا سيبقى الباجي حاضرًا بيننا، حتى الذين كانوا قد نزعوا عن الباجي الشرعية بعد أن رفض التوقيع على تعديلات القانون الانتخابي جاؤوا للتلفزيون يبكونه ويسردون ذكرياتهم معه ويقولون للناس إنهم كانوا من رفاقه المخلصين.
الرموز الثقافية والتاريخية تنشأ بهذه الطريقة يكون فيها للوسطاء دور أساسي في بنائها. كان الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه صاحب نظرية “الميديولوجيا” التي تدرس الوساطات الثقافية، يعتبر أن المسيح هو صنيعة الكنيسة وليس العكس. وهو يريد أن يقول بذلك إن الرموز الثقافية لا تنشأ من عدم بل هي نتاج لعمليات مركبة من الوساطات.
يمكن أن ننتظر إذًا إلى ازدهار منظومة كاملة من الوسائط ستتحدث باسم الباجي قائد السبسي الذي سيتحول تدريجيًا إلى رمز يختزل أشياء كثيرة: الوطنية أو تونس الأصيلة المعتدلة، هيبة الدولة. وبهذا المعنى فإن الباجي قائد السبسي لم يمت بل تنتظره حياة (أو أكثر) أخرى تمامًا كبورقيبة الذي حاول بن علي طمس ذكراه لدى التونسيين عندما رفض نقل موكب جنازته على المباشر. لكن بورقيبة الغائب انتصر على بن علي عندما تحول إلى رمز لدى تونسيين لم يعرفونه. ثم أن الباجي قائد السبسي سيظل حاضرًا لأن بعض التونسيين سيقيّمون المترشحين وفق النموذج الرئيس الذي كان عليه/
أيام قليلة بعد وفاة الرئيس انطلقت حملات في فيسبوك تناشد وزير الدفاع الحالي عبد الكريم الزبيدي للترشح للرئاسة ليس فقط لأنه قد يكون نجح في تنظيم موكب دفن الرئيس الذي أمنه الجيش بل بسبب هذه العلاقة بينه وبين الرئيس. فصورة عبد الكريم الزبيدي وهو ماثل أمام التابوت الذي يحمل جثمان الباجي قائد السبسي كان لها وقع كبير على بعض التونسيين خاصة وأنه كان الشخص الأخير الذي التقاه في مكتبه كما وثقت ذلك الصور التي نشرتها رئاسة الجمهورية.

تجربة تلفزيونية جديدة

النقل التلفزيوني لموكب جنازة الباجي قائد السبسي كان نوعًا جديدًا من التجارب التلفزيونية فمشاهدة التلفزيون تجربة اجتماعية. يشاهد الناس التلفزيون في البيت مع أفراد العائلة في إطار جماعة صغيرة أو في غرفهم منزوين. يمكن للناس أيضًا الحديث في ما شاهدوه مع بعضهم البعض مما يجعل التلفزيون موضوعًا لأنشطة اجتماعية متنوعة.
لكن الناس يمكن أن يشاهدوا مباريات كرة القدم في المقاهي. وعندما يتعلق الأمر بالفريق الوطني تتحول هذه المقاهي إلى فضاءات اجتماعية يؤمها الناس ليعيشوا معًا تجربة المشاهدة الجماعية ويتقاسمون فيها الأفراح.
العلامات التجارية فهمت هذا البعد الجماعي للمشاهدة الجماعية فابتكرت ما يسمى “fans zone” حيث يتحول الحاضرون إلى كتلة واحدة متلاحمة تقفز فرحًا عند تسجيل هدف ما.
مشاهد النقل التلفزيوني لموكب الجنازة ستبقى عالقة في ذاكرة التونسيين كذكرى جماعية وجامعة لا مثيل له أو كإحدى التجارب التلفزيونية نادرة الوجود تمامًا كما لا يزال الكثير من التونسيين يحتفظون بذكريات النقل التلفزيوني لمباريات الفريق الوطني في كأس العالم في الأٍجنتين.
تحوّل التلفزيون إلى وسيط يجمع بين مئات الآلاف من التونسيين الذين ينظرون في الوقت ذاته عبر  كل القنوات التي تنقل المشهد ذاته. إنه سحر التلفزيون الذي لا يمكن أن تنافسه فيه أنواع الميديا الأخرى.

العين الخفية

الكاميرا التلفزيونية عين نرى من خلالها ما لا يمكن أن نراه بأنفسنا. فهي تأتي لنا بالعالم عبر الشاشة. لكن هذه العين التي نرى من خلالها العالم لا ترى بالضرورة كما نرى نحن فهي انتقائية ترسم لنا أطرًا نشاهد من خلالها ما يريد المخرج أن نراه. وهي إذن لا تأتي لنا بالعالم كما هو بل بالعالم كما يراه من يدير الكاميرا.
موكب تأبين الرئيس في قصر قرطاج أثار جدلًا ولغطًا لم ينته بعد حول ما أظهرته الكاميرا وما أخفته عن المشاهدين. ثمة من اعتبر أن الإخراج كان سياسيًا ولم يكن عفويًا لأنه أبرز شخصيات بشكل واضح وحدّ من ظهور شخصيات أخرى على غرار الرئيس المؤقت السابق المنصف المرزوقي. يبدو هكذا أن النقل التلفزيوني لم يكن بريئًا وعفويًا مما يجعلنا نحتاط دائمًا من التلفزيون ليس لأنه قادر بالضرورة على التلاعب بعقولنا ولكن لأنه لا يمكن له أن يكون مرآة العالم كما هو.

استطلاعات الرأي الكاذبة؟

لقد تولدت عن السنوات التسع الماضية، التي يطلق عليها مرحلة الانتقال الديمقراطي، مفارقة عجيبة فالسياسيون الجدد الذين أتوا بعد الثورة لتأسيس السياسة الديمقراطية الجديدة فقدوا بريقهم ومصداقيتهم عند الناس. كانوا يريدون أن يكونوا بديلًا فأضحى التونسيون يبحثون لهم عن بديل: المستقلون مثلًا أو شخصيات يمكن أن نسيمها غير نمطية.
تظهر استطلاعات الرأي التي نشرت قبل منعها بقوة القانون الانتخابي عددًا قليلًا من التونسيين يريدون الباجي قائد السبسي رئيسًا جديدًا. هكذا تبدو استطلاعات الرأي وكأنها كانت كاذبة عندما نرى تفاعل التونسيين مع وفاته ومدى تقدير الناس له.

فيسبوك مجال فسيح لنرجسية جديدة؟

في السنوات الأخيرة، انتشر الاعتقاد بأن التونسيين ينظرون إلى الثورة بأنها خطأ تاريخي لم يجلب لهم سوى المصائب والقروض وغلاء الأسعار والفوضى الأمنية. كان فيسبوك مجالًا عبّر فيه التونسيون طويلًا عن هذا الندم وعن امتعاضهم إلى ما آلت إليه الأمور؟ ثم مع وفاة الباجي قائد السبسي انقلب المزاج الجمعي إلى نقيضه وتحول فيسبوك إلى مجال فسيح للاحتفاء بالانتقال السلس للسلطة وبقوة المؤسسات الدستورية ومناعتها وبالديمقراطية التونسية التي أضحت استثناء عربيًا لا مثيل له، وبالنموذج التونسي الذي أبهر العالم.
لم ينفك التونسيون عن التعبير عن فخرهم واعتزازهم بالديمقراطية الفتية الوحيدة في العالم العربي. ما الذي حصل حتى تندثر الشكوى من أوضاع البلاد ومن “ثورة البرويطة” إلى ما يمكن أن نسميه نرجسية جماعية تستند إلى فكرة أن التونسيين أصحاب حضارة منذ ثلاثة آلاف سنة.
هكذا كانت مراسم دفن الباجي قائد السبسي وكأنها مرآة التونسيين لأنفسهم. وقد يكون الباجي قائد السبسي على نحو ما من صالح التونسيين مع ديمقراطيتهم وهو دور ليس بالهيّن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر / إلترا تونس

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى