أهم الأحداثبكل هدوء

“العصفور النادر”: حسابات الحقل والبيدر بين النهضة و”السيستام”.. أو من ترشح النهضة للرئاسة ؟

بقلم / صالح عطية

 

“العصفور النادر”، هي الكلمة الخفيفة على اللسان، الثقيلة على آذان السياسيين، ربما لأنها صادرة عن رئيس حركة النهضة، فهي ــ مثل كل تصريحات الرجل ــ مدعاة للتساؤل والاستفهام، والسخرية والتندّر، و”التنبير” أيضا، أما إذا ما صدرت عن فصيل آخر من المشهد السياسي، أو جاءت على لسان رجل أو امرأة من مشارب فكرية أو حزبية أخرى، فستكون بالتأكيد، “الحكمة البالغة”، ولكان قائلها من رموز “العقلانية الحديثة”، ومن “التقدميين” العارفين بالشأن السياسي وخباياه.. وتلك من معضلات السياسة في تونس بعد الثورة..
نظريا، حالة الاستقطاب، انتهت بعد العام 2014، لكن من الناحية العملية، هي جاثمة في العقول والأفكار، وثاوية في المواقف، طالما أنّ ثمة إسلاميون يتحركون، ويعبرون عن مواقفهم، ومنخرطون في الحكم، ولاعبون أساسيون في المشهد، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.. وهذا لعمري، لا يبني مشهدا محترما.
كان يفترض، أن يكون التعامل مع تصريحات السياسيين، بشكل أكثر رصانة، وبمنطق فيه من العمق والجدية ما يكفي لجعل التصريحات السياسية، جزء من الثقافة السياسية الجديدة في بلادنا، والتعامل معها، يؤسس لعلاقات سياسية متعددة ومتنوعة، وبالتالي مثمرة، لكن تجري رياح البعض بما لا يشتهي البعض الآخر..
وإذا شئنا أن نفكك كلمة “العصفور النادر”، وفقا للمنهج “الداريدي” (نسبة إلى جاك دريدا)، يمكن للمرء أن يتوقف عند ثلاث ملاحظات أساسية:

ثلاث ملاحظات 

ــــ الأولى، أنّ حركة النهضة، تؤكد بتصريح رئيسها، السيد راشد الغنوشي، أنها لن ترشح شخصية من داخلها، ويبدو أنها حسمت هذا الموضوع نهائيا.. فمجرد “البحث”، يعني أنها تستبعد ترشيحا داخليا، على الأقل في فكر رئيسها، صاحب المبادرة في حركته، حتى بالقفز على ما يسمى “مؤسسات الحركة”.
فالبحث، يعني في النهاية، أنّ دائرة التفكير النهضوي في الرئاسية، باتت من خارج الحزب، بما يعني أن حركة النهضة، ستتجه إلى المحمل الوطني للبحث والإختيار، وهذا يقودنا إلى الملاحظة الموالية..
ـــــ الثانية، أنّ حركة النهضة، دخلت مرحلة البحث وفقا لشروط محددة، لم تكشف عنها، ولكنّها تبدو واضحة في ثنايا تحركاتها، وطبيعة علاقاتها، وبعض التصريحات التي تدلي بها قياداتها بين الفينة والأخرى.
فهي ترفض الاستئصال، ولا ترغب في نسف فكرة التوافق من المشهد السياسي، وهي لا تريد أن يكون مشهد ما بعد 2019، يقفز على موقعها في الحكم، وعلى تموقعها ضمن الحكومة القادمة، بصرف النظر عن تمثيليتها، المهم بالنسبة إليها، أن تبقى في منظومة الحكم، وجزء أساسي من محددات القرار السياسي في البلاد.
ــــ الثالثة، إنّ الرئيس القادم لتونس ــ في تقدير النهضويين ــ لا بدّ أن يكون مستوعبا لهذه “الشروط”، مؤمنا بها، ومطمئنا للحركة بهذا الصدد، وقابل للتفاعل الإيجابي معها، بعيدا عن أسلوب رئيس الجمهورية الحالي، السيد الباجي قايد السبسي، الذي ما انفكّ ــ في نظرها ــ يستفزّها، ويقضّ مضجعها، بقرارات أو مبادرات أو مواقف أو خطابات، وهي تجربة لا يمكن أن توفر النهضة، ظروف تكرارها، بأي شكل من الأشكال..
لكنّ هذا “العصفور النادر”، ليس هو يوسف الشاهد كذلك، الذي يبدي معها الكثير من الغموض، وعدم التعاون بالكيفية التي كانت تتوقعها..
ومع التسريبات التي تتحدّث عن مواقفه السلبية من حركة النهضة في كواليس الحكومة، تكون “مؤسسة مونبليزير” قد رفعت أيديها عن يوسف الشاهد في الرئاسية، باعتباره وإن لم يكن استئصاليا، فإنّه لم يتوافق معها بالكيفية اللازمة، ولم يسمح لها بأن تكون جزءا من صنع القرار السياسي، بل أبدى الكثير من “الدهاء”(!)، من خلال تسويف مطالبها، والبطء في التعامل مع مقترحاتها، التي لم يجد الكثير منها، سبيله للتنفيذ، رغم الوعود بذلك من قبله، وفق بعض المصادر الموثوقة بالحزب..
وترى قيادة النهضة ــ على ما يبدو ــ أنها رغم انحيازها له في صراعه مع رئيس الجمهورية، ودخولها في خصومة مع القصر، استمرت بضعة أشهر، من أجل ما أسمته
بــ “الاستقرار الحكومي”، الذي كان يعني، الإبقاء على يوسف الشاهد رئيسا للحكومة، فيما كان رئيس الجمهورية يتجه لتنحيته، فإنّها لم تجد “حساباتها” مع القصبة.

عصافير الرئاسة.. بحجر واحد

وفي تقديرنا، فإنّ رئيس حركة النهضة، عندما أطلق تعبيرة “العصفور النادر”، إنما كان يرغب من خلالها، ضرب جملة من “العصافير” بحجر واحد..
كان يوجّه رسالة للمرشحين المفترضين، الذين يرغبون في مساندة الحركة لهم، بأنّ العصفور النادر، ليس في كل الأحوال أحدا من هؤلاء، ولعل في مقدمتهم السيد حمادي الجبالي، الذي أعلن ترشحه لــ “الرئاسية”، وما يزال يمنّي النفس باستثمار أصوات النهضويين، معتبرا نفسه أحق من غيره بهذه الأصوات.
وبالتأكيد، لن يكون هذا العصفور، شخصية مثل، مصطفى بن جعفر، الذي لن تنسى له حركة النهضة، إغلاقه للمجلس التأسيسي، بقرار فردي، ودون الاستئناس برأيها أو حتى إعلامها بذلك.. ربما طمأنته بالمساندة، لكنّه لا يبدو ضمن الدائرة المرغوب فيها.
وبالطبع، لن يكون هذا العصفور، الدكتور المنصف المرزوقي، فما بين الطرفين ودّ أكثر منه تعاون على المستقبل، أو رهان على الرجل..
أما فرضية ترشيح مهدي جمعة، الذي يبدو أنّه في دائرة الاهتمام الفرنسي، فمن المرجح أن يكون “خارج الخدمة” بالنسبة لحركة النهضة، التي ما تزال تذكر، عملية “التمشيط” التي أخضع لها الحكومة، عندما كان رئيسها، عبر إبعاد كل النهضويين في الوزارات والمؤسسات، تحت عنوان تحييد المرفق العام، وتجنيب الإدارة التحزب، وبخاصة الاختراق النهضوي.
وسواء صحّت هذه المطيات أم لا، فهي تبقى “مادّة أساسية” لتبرير الرفض لرئيس “البديل التونسي”.
إنّ رئيس حركة النهضة، وهو يرمي بكرة “العصفور النادر”، يوجه رسالة مضمونة الوصول، إلى “السيستام القديم”، بضرورة أن يحسم أمر مرشحه، بالشروط التي أتينا عليها سابقا، والحركة مستعدّة عندئذ، لصياغة توافق جديد، تضمن من خلاله عدم الترشح، ولكن أيضا، وأساسا، حشد منظوريها للتصويت عليه، بحيث يكون الرئيس الأغلبي دون عناء كبير..
ولا شكّ أنّ حركة النهضة، وهي تبعث بهذه الرسائل، تضع شرطا أساسيا، في خلفيتها، هو استبعاد “الشمطاء”، عبير موسي، من دائرة “السيستام”، ومحاولة استمالة مختلف الطيف “الدستوري”، بما في ذلك، شقوق “النداء” باختلاف تمظهراتها، من أجل تشكيل مشهد، موغل أكثر في “المنظومة القديمة”، مع بعض “اليسار المعتدل”، الذي تمتلك حركة النهضة، أفق تحديد هويته، بما يتماهى مع تلك الشروط آنفة الذكر.
لا يهمّ إن كان هذا العصفور عندئذ، السيد كمال مرجان، رئيس حزب المبادرة، أو منذر الزنايدي، أو أي من مقترحات السيستام، شرط أن تؤخذ تلك الشروط الميسرة، بعين الاعتبار..

ليست للاستهلاك الصحفي

ويبدو أنّ هذه الصيغة “النهضوية الوطنية”، كما يحلو للسيد محمد مواعدة تسميتها، لم تكن خارج سياق الترتيبات الخارجية، التي باتت تأكل من القصعة التونسية، قبل التونسيين أنفسهم..
ولعل زيارة رئيس حركة النهضة إلى باريس مؤخرا، تصبّ في هذه الترتيبات، وربما كانت ضبطت بوصلة حركة النهضة فيما يتعلق بــ “الرئاسيات التونسية”..
لذلك، يمكن القول، إنّ “العصفور النادر” الذي تحدّث عنه الغنوشي، ليس مجرّد كلمة للاستهلاك الصحفي أو السياسي، إنما هي حصيلة مقاربة، وجزء من سيناريو المرحلة المقبلة..
عسى أن نقرأ تصريحات السياسيين بعقل سياسي، بعيدا عن الأمزجة وبعض الحساسية  والحسابات الضيقة، التي لم تعد تجدي نفعا، في بلد يبلغ حاليا الهزيع الأخير من مرحلة انتقاله الديمقراطي..

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى