ترمبياهو

بقلم / نبهان خريشة
لم يكن القصف الإسرائيلي الذي استهدف وفد حماس المفاوض في الدوحة، حدثاً عسكرياً معزولاً، بقدر ما كان مؤشراً على نمط جديد من التنسيق السياسي والأمني بين ترمب ونتنياهو.
هذا النمط، الذي يمكن توصيفه اختصاراً بـ “ترمبياهو”، يقوم على رؤية مشتركة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط عبر الفوضى وضبط الأنظمة، أكثر من قيامه على الاستقرار أو بناء منظومة إقليمية متوازنة.
فمنذ وصول ترمب إلى البيت الأبيض، بدا واضحاً أن واشنطن لم تعد معنية بالمقاربات التقليدية التي حكمت سياساتها الشرق أوسطية لعقود. فبدلاً من خطاب “السلام الإقليمي” و”التكامل الاقتصادي” الذي طُرح في تسعينيات القرن الماضي، اختار ترمب ونتنياهو مقاربة أكثر حدة: ترسيخ إسرائيل كقوة مهيمنة، وإبقاء محيطها العربي في حالة هشاشة سياسية وأمنية تسمح بالتحكم في مساراته.
إن الهجوم على الدوحة يكشف جانباً من هذه المقاربة. فإسرائيل لم تتردد في استهداف أراضٍ لدولة تُصنَّف حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، وتستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في العالم. الأكثر دلالة أن الإدارة الأميركية أبلغت قطر بالهجوم بعد او قبل وقوعه بدقائق ــ لا فرق، في حين أن قدرات الرصد المتقدمة في تلك القاعدة قادرة على كشف أي تحرك جوي في المنطقة قبل حدوثه. هذه التفاصيل تثير تساؤلات حول حدود التنسيق الأميركي – الإسرائيلي في العملية، وحول ما إذا كان الصمت الأميركي يعكس تواطؤاً مقصوداً أكثر مما يعكس عجزاً أو إهمالاً.
إلى جانب التنسيق مع إدارة ترمب، يقدّم نتنياهو نفسه باعتباره مهندس “شرق أوسط جديد” قائم على الردع المستمر والقوة المفرطة. هذه الرؤية تتجلى في سلسلة من السياسات العسكرية التي لم تتوقف عند حدود فلسطين، بل امتدت إلى عموم الإقليم. نتنياهو اعتاد على التلويح بالتهديدات ضد دول الجوار، وتنفيذ ضربات جوية متكررة في لبنان وسوريا، واستهداف مواقع دااخل إيران في حرب الـ 12 يوم، في رسالة مفادها أن إسرائيل لا تعترف بالحدود ولا بالسيادة إذا تعارضت مع مصالحها الأمنية.
هذه الضربات ليست عشوائية، بل تدخل ضمن استراتيجية أوسع لتكريس صورة إسرائيل كقوة إقليمية مطلقة اليد. فلبنان يتعرض باستمرار لغارات واغتيالات، وسوريا شهدت عشرات الضربات التي استهدفت بنى تحتية عسكرية ومدنية على السواء، فيما تعتبر العمليات ضد إيران جزءاً من معركة أوسع لمنع أي توازن استراتيجي محتمل. وصول هذه السياسة إلى الدوحة يوسّع رقعة الاستهداف ليشمل حتى الدول التي تُصنَّف حليفة للولايات المتحدة، ما يؤكد أن “الشرق الأوسط الجديد” في رؤية نتنياهو (وبتواطؤ ترمب) لا مكان فيه لخطوط حمراء أو استثناءات.
غير أن أخطر تجليات هذه الرؤية يظهر في السلوك الإسرائيلي المنفلت في قطاع غزة. فالحملات العسكرية المتواصلة ضد المدنيين، وما رافقها من تهجير جماعي وتدمير للبنية التحتية، تعكس سياسة تطهير عرقي واضحة تهدف إلى إعادة رسم الواقع الديموغرافي والسياسي في القطاع. بالنسبة لنتنياهو، يشكّل إفراغ غزة من سكانها أو دفعهم إلى سيناء المصرية جزءاً محورياً في “حلّه النهائي” للقضية الفلسطينية، وهو ما يتقاطع مع الرؤية الأميركية – الإسرائيلية الأوسع القائمة على إعادة ترتيب المنطقة وفق اعتبارات القوة المجردة لا وفق قواعد القانون الدولي.
سياسة “ترمبياهو” لا تنظر إلى الفوضى باعتبارها خطراً يجب تجنبه، بل كأداة استراتيجية يمكن استثمارها. ففي نظر ترمب، الاضطراب يوفر أرضية مناسبة لإبرام صفقات سريعة: عقود تسليح بمليارات الدولارات، أو اتفاقيات تطبيع تُسوّق باعتبارها إنجازات تاريخية في سعيه للترشح لجائزة نوبل، رغم أنها في جوهرها ترتيبات ظرفية. أما نتنياهو، فيدرك أن إسرائيل تخرج أكثر قوة في بيئة إقليمية متصدعة، وأن أي دولة منشغلة بأزماتها الداخلية ستجد نفسها مضطرة للتسليم بشروطه.
من هنا يمكن فهم أن استهداف الدوحة لم يكن مجرد رسالة إلى حماس، بل إشارة إلى عواصم المنطقة بأن الحماية الأميركية ليست ضمانة مطلقة. فحتى الدول التي تدور في الفلك الغربي يمكن أن تجد نفسها عُرضة لضربات إسرائيلية، من دون أن يتبعها رد أميركي رادع. الرسالة الأوسع أن السيادة الوطنية للدول أصبحت قابلة للاختراق متى اقتضت مصالح واشنطن وتل أبيب ذلك.
الانعكاسات الاستراتيجية لهذه السياسة تتجاوز حدود الشرق الأوسط. فإذا جرى التطبيع مع فكرة “الضربات الاستباقية” ضد أطراف ليست في حالة حرب معلنة، وتحت أعين الولايات المتحدة، فإن النظام الدولي نفسه يدخل مرحلة جديدة قوامها شرعنة الخرق المستمر للقانون الدولي. هذا التحول لا يفتح الباب أمام مزيد من عدم الاستقرار الإقليمي فحسب، بل يهدد أيضاً بإرساء سوابق قد تُستخدم في مناطق أخرى من العالم.
ومع ذلك، تحمل هذه المقاربة تناقضاً داخلياً يصعب تجاهله. فالفوضى أداة فعالة على المدى القصير، لكنها غير قابلة للإدارة إلى ما لا نهاية. تجارب العقود الماضية – من العراق إلى سوريا وليبيا – أثبتت أن انهيار الدول لا ينتج فراغاً يمكن ملؤه بسهولة، بل يولّد ديناميات مقاومة يصعب ضبطها. أي إن مشروع “ترمبياهو” قد ينجح في إرباك الخصوم وإخضاع بعض الأنظمة مرحلياً، لكنه يعجز عن توفير استقرار مستدام لإسرائيل أو للولايات المتحدة في المنطقة.
الأكثر من ذلك أن مثل هذه السياسات قد ترتد سلباً على أصحابها. فالهجوم في الدوحة قد يدفع قطر، وغيرها من الدول، إلى إعادة النظر في مدى جدوى علاقتها الأمنية مع واشنطن، أو في حجم الاعتماد على المظلة الأميركية. كما أن استهداف “الأصدقاء” لا يقلل من نفوذ حماس أو غيرها من الفاعلين غير الدوليين، بل يمنحهم زخماً إضافياً باعتبارهم قادرين على تحدي توازنات القوى القائمة.
“ترمبياهو” إذن ليس مجرد تحالف شخصي بين رئيس أميركي ورئيس وزراء إسرائيلي، بل رؤية لإدارة المنطقة عبر سياسة العصا الغليظة الدائمة، وإعادة إنتاج الاصطفافات على أساس الخوف من الفوضى أكثر من الأمل بالاستقرار. غير أن التاريخ يوضح أن مثل هذه النماذج لا تدوم. فالفوضى التي تُدار اليوم كأداة قد تتحول غداً إلى تهديد لا يمكن السيطرة عليه، لتصيب صانعيها قبل غيرهم.
بهذا المعنى، يمكن القول إن ما نشهده هو فصل جديد في محاولات إعادة رسم الشرق الأوسط، لكنه فصل محفوف بمخاطر مضاعفة: فبينما يظن “ترمبياهو” أنه يرسخ معادلة السيطرة عبر الفوضى، فإن الواقع قد يقود إلى نتيجة معاكسة، حيث يتآكل النفوذ الأميركي – الإسرائيلي تدريجياً مع تزايد فقدان الثقة في التحالفات القائمة، وصعود أنماط مقاومة جديدة يصعب كبحها..
إضغط هنا لمزيد الأخبار