تعديل اتفاقية التبادل الحر: عندما تنتهك السيادة.. باسم السيادة !!

بقلم / جنات بن عبد الله
لماذا سرعت الحكومة التونسية عملية تمرير مشروع قانون أساسي لتعديل اتفاقية التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي؟ سؤال تجيب عنه الخبيرة الاقتصادية والمحللة المالية، جنات بن عبد الله في هذه المقاربة النقدية.
في جو هادئ يغلب عليه الروتين اليومي، نظرت لجنة العلاقات الخارجية والتعاون الدولي وشؤون التونسيين بالخارج والهجرة في مثل هذا اليوم الشتوي، الاثنين 29 ديسمبر 2025، في ثلاثة مشاريع قوانين تبدو عادية، في جلسة برلمانية عادية استمع خلالها النواب الحاضرون الى عرض عادي من السيد وزير التجارة وتنمية الصادرات لترفع الجلسة بالإعلان عن اجتماع الجلسة العامة يوم الأربعاء 31 ديسمبر 2025 التي ستخصص للنقاش العام والمصادقة. ولم يغفل الحاضرون في اخر الجلسة عن تذكير أنفسهم بتوصية جهة المبادرة المتعلقة باستعجال النظر في هذه المشاريع.
نعم هكذا تمر، في بلادنا، مشاريع قوانين اخر السنة، بطريقة سلسة، وعادية، وسريعة أيضا التزاما بتوصية جهة المبادرة وهي رئاسة الجمهورية، طريقة كرسها أيضا وزير منضبط ذكر في الجلسة بالمسار الذي تندرج فيه هذه المشاريع الثلاث وهو مسار فني بحت من شأنه، كما جاء على لسانه، تسهيل عملية التبادل التجاري والاستثمار لتونس والبلدان الشريكة في الفضاء الأورو-متوسطي، ليختم تدخله بتلك الجمل الصالحة لكل زمان ومكان، والتي استعارها من وثيقة مشاريع القوانين المعروضة ” ومن شأن الموافقة على هذه المشاريع المساهمة في خلق مواطن شغل جديدة والترفيع في الصادرات التونسية”.
هكذا وبكل بساطة سحب السيد الوزير عن مشاريع القوانين الأساسية الثلاثة المعروضة بعدها الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بوصف المسار بالفني. والحال أن هذه المشاريع المتعلقة بتعديل قواعد المنشأ لم تصدر عن جهة تونسية ولكنها جاءت من جانب الاتحاد الأوروبي المعروف عنه استماتته في الدفاع عن اقتصاده وشركاتها الموجودة داخل الفضاء الأوروبي وخارجه وتحديدا في بلدان جنوب المتوسط التي لها معها اتفاقيات تبادل حر تعود الى منتصف القرن الماضي.
هكذا وبببساطة بسيطة اختزل السيد الوزير أشغال عشر سنوات قضاها خبراء اللجنة الأوروبية المتوسطية لقواعد المنشأ في البحث والمناورة والتكتيك والاستنباط لضبط قواعد منشأ جديدة تستفيد من التطورات الإقليمية والعالمية ويتم توظيفها لمزيد حماية الشركات الاوروبية الموجودة داخل المنطقة الأوروبية وخارجها.
قواعد المنشأ والنظام الأورومتوسطي
العملية انطلقت في سنة 2012 لتقدم اللجنة الصيغة النهائية التوافقية للنظام الأورومتوسطي الجديد لقواعد المنشأ كمنقح للاتفاقية الجهوية لقواعد المنشأ التفاضلية الأوروبية المتوسطية يوم 7 ديسمبر 2023 وتحدد يوم 1 جانفي 2026 تاريخا أقصى لاعتماده من طرف الجهات المتعاقدة بما في ذلك تونس.
وقواعد المنشأ هي “الجنسية الاقتصادية” للمنتوجات المتبادلة في التجارة الدولية، وهي عبارة عن مجموعة من المعايير والضوابط القانونية والفنية التي تستخدم لتحديد البلد الذي صنع فيه المنتوج. وبعبارة أخرى هو “جواز السفر” الذي يسمح للمنتوج التونسي مثلا بعبور الحدود الأوروبية دون دفع معاليم جمركية أو دفع معاليم جمركية منخفضة وذلك بعد التأكد من أن العمليات التصنيعية التي تمت في تونس كافية لتغيير جنسية المواد الأولية من جنسية أجنبية الى جنسية تونسية بما يعطي لهذا المنتوج التونسي النهائي حق التمتع بالصيغة التفاضلية عند عبور الحدود.
ومن هذا المنطلق تكمن أهمية قواعد المنشأ في دورها لتحديد هوية المنتوج أو جنسيته للتمتع بإعفاءات جمركية والنفاذ الى السوق الأوروبية.
وبعبارة أخرى هي قيود فنية تمارسها السوق الأوروبية تجاه صادرات بلدان الجنوب، ومنها تونس، لتقييد نفاذ المنتوجات التونسية أو المغربية أو المصرية لسوقها. وهي في اخر المطاف إجراءات حمائية تمارسها الجهات الأقوى في السوق العالمية لمزيد تهميش الأسواق الناشئة التي تتطلع الى اقتلاع موقع في السوق العالمية.
وأمام تزايد المنافسة، ولضمان ديمومة نشاط شركاتها، تعمل الجهات الرسمية في الفضاء الأورومتوسطي ممثلا في الاتحاد الأوروبي على وضع قواعد وقيود وقوانين لا تخلو من الخبث والسموم التي من شأنها قطع الطريق أمام تفوق دول الجنوب.
القوى المهيمنة.. والمعركة الأبدية
هي معركة أبدية تعمل القوى المهيمنة مثل الاتحاد الأوروبي على تقنينها باليات جديدة متجددة في كل عشرية للحفاظ على مواقعها وسحق كل محاولة لاقتلاع موقع من قبل شركات الجنوب.
من هذا المنطلق لا يخلو هذا التعديل الأوروبي الجديد لقواعد المنشأ من هذه التفاصيل التي تستهدف كل محاولات التميز للمنتوج التونسي أو المغربي أو المصري. فأعين أجهزة الاتحاد الأوروبي بالمرصاد للتعديل والتغيير لفرض قوانين جديدة تلبس عباءة المصلحة المشتركة.
ولئن تتغنى الجهات الأوروبية بالتشاركية والتفاوض والتحاور، فان الكلمة الأخيرة تحسم لفائدتها لتنحني بلدان الجنوب خاضعة.
والقول أن بلدانا من الجنوب استطاعت، بفضل التفاوض، الاستفادة من التعديل الجديد وتوجيهه لخدمة مصالحها هو قول مردود على أصحابه باعتبار أن من مأسس الاستعمار والاستعباد لا يمكنه التحرر من قيودها.
عملية التعديل شملت مبدئين اثنين مبدأ التراكم الكلي لعمليات التصنيع، ومبدأ التحويل المبسط.
فاذا انطلقنا من أهداف المبدأ الأول أي التراكم الكلي لعمليات التصنيع المتمثل في تحويل المنطقة الأورومتوسطية الى مصنع واحد وكبير، يتضح أن تعميم تطبيق القواعد الجديدة تسمح لمصنع تونسي، مثلا، من توريد قطعة خضعت لمعالجة جزئية في المغرب واكمال تصنيعها في تونس ثم تصديرها الى السوق الأوروبية كمنتج “منشأ أورومتوسطي” والتمتع بالنظام الجمركي التفاضلي.
أصحاب هذا التعديل والجهات الحكومية في تونس ترى أن القواعد الجديدة ستحول تونس الى “منصة تصنيع إقليمية ويفتح افاقا كبيرة أمام المؤسسات الصناعية التونسية لتطوير انتاجها والرفع من صادراتها والاستفادة من التراكم والاندماج…”. خطاب خطير تجنب استشراف مستقبل هذا النموذج ومستقبل المصانع التونسية التي ستتحول الى ورشات باعتبار أن التخصص الضيق يقتل التطور والابداع والانطلاق.
ورغم حالة التصحر الذي يشكو منه نسيجنا الصناعي الا أن الهاجس الوطني كان يفرض رفض هذا النموذج الذي يقضي على هوية المنتوج التونسي وجنسيته التونسية لتتحول تونس، ليس الى منصة تصنيع إقليمية كما يدعون، ولكن الى رقم في معادلة صناعية لا مكان فيها الا للأقوى.
النموذج المتهاوي
نموذج ينزل بتونس الى أدنى المستويات الصناعية ويهمش كفاءاتها لتختص في العمليات التكميلية دون التطلع الى الابتكار والحصول على براءات الاختراع. هي قواعد تقطع الطريق أمام كل اجتهاد وتميز وتؤسس لقواعد استعمارية بامتياز.
ويأخذ هذا المبدأ، مبدأ التراكم الكلي لعمليات التصنيع، بعدا أخطر حيث يهم عدد من الصناعات بما فيها الصناعات التحويلية الغذائية وصناعات مكونات السيارات والصناعات الكهربائية.
وفي ذات السياق، فان مبدأ التحويل المبسط المتعلق بقطاع النسيج والملابس لا يخلو هو أيضا من تفاصيل خبيثة وتدميرية للقطاع في بلادنا. فقد عمل التعديل على ضبط قواعد منشأ ستحول تونس الى ورشة “قص وخياطة ” فقط بعيدا عن كل تفكير في إقامة سلسلة انتاج متكاملة ومندمجة، هدف تطلع اليه أهل القطاع منذ سبعينات القرن الماضي ليتم تحويلنا اليوم، بعد هذا التراكم المعرفي على امتداد أكثر من خمسة عقود، وبمعايير خبيثة، الى ورشة خياطة أورومتوسطية.
واضعوا القواعد الجديدة ادعوا أن قواعد المنشأ القديمة التي تقوم على مبدأ التحويل المزدوج في قطاع النسيج كانت تعيق المصنعين باعتبارها كانت تشترط أن يبدا التصنيع من الخيوط وتحويله الى قماش يستغل لتصنيع الملابس الجاهزة الى جانب قماش أوروبي وهي صيغة تسمح للقطعة بالنفاذ الى السوق الأوربية تحت النظام التفاضلي أي بدون معاليم جمركية. ورغم التجربة التونسية في مجال النسيج فان نسبة الاندماج التي لم تتجاوز 7 بالمائة، مرشحة للاندثار.
اليوم القواعد الجديدة ألغت شرط البدء من الخيوط وسمحت البدء من القماش الجاهز وتوريده من خارج الفضاء الأوروبي. وقد منحت اللجنة الأوروبية المتوسطية لقواعد المنشأ تونس استثناء في هذا المجال للتزود بمدخلات الإنتاج من خارج الفضاء الأوروبي، استثناء رحب به أهل القطاع على خلفية أنه سيسمح لهم بهامش تحرك أوسع للضغط على التكاليف.
وفي الوقت الذي نوهت فيه الحكومة بهذا النموذج الذي ادعت أنه سيجذب الاستثمار الأجنبي ويشجع الشركات العالمية على فتح “ورشات خياطة” في تونس والنفاذ الى السوق الأوروبية دون معاليم جمركية، فقد صمتت بخصوص حقيقة استراتيجية القطاع التي وضعها الاتحاد الأوروبي لتونس للسنوات الخمس القادمة. فاعتماد مبدأ التحويل المبسط كقواعد منشأ سيؤدي الى اندثار القطاع وظهور “ورشات خياطة” تحتاج الى عملة صعبة لتوريد مدخلات انتاجها لتودع تونس بذلك نموذج الاندماج وسيادتها على القطاع.
ان تبني تونس لقواعد المنشأ المعدلة باعتبار اتفاقية الشراكة التي تربطها بالاتحاد الأوروبي هو شكل مقنع اخر للتدخل الأوروبي في السيادة والوطنية وفي قراراتنا السيادية وخياراتنا الاقتصادية. فقد فرضت هذه القواعد نسيجا صناعيا في خدمة الفضاء الأوروبي بل هي نسفت هذا النسيج الصناعي الوطني الفتي وحولته الى ورشات لا مستقبل لها الا بالطلب الأوروبي ولا علاقة لها بالواقع الاقتصادي الوطني.
إضغط هنا لمزيد الأخبار
















