تقرير استراتيجي رسمي: نصف الاقتصاد مرتهن للريع.. و50 ألف وظيفة مهدورة سنوياً

تونس ــ الرأي الجديد
ذكرت دراسة استراتيجية، أنّ ظاهرة الاقتصاد الريعي التي تقوم على الامتيازات غير المشروعة والاحتكارات والتراخيص الانتقائية، من أخطر الظواهر التي تشلّ اقتصاد تونس.
الدراسة صدرت عن المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، التابعة لرئاسة الجمهورية، تحت عنوان: “السياسة العامة لمكافحة الاقتصاد الريعي في تونس: نحو نمو شامل ومستدام”.
وأكدت الدراسة، التي هي عمل بحثي استراتيجي أعدّته الخبيرة هالة بن حسين خلادي في أكتوبر 2025، أنّ الاقتصاد الريعي، أعاقت نموّ الاقتصاد التونسي العادل والمستدام، وهو ما خلّف آثارا سلبية على الإنتاجية، والعدالة الاجتماعية، والاستقرار السياسي.

وبيّنت ذات الدراسة أنّ الاقتصاد التونسي يعاني منذ عقود من تغلغل آليات الريع في مختلف القطاعات، إذ تشير البيانات إلى أنّ أكثر من 50% من النشاط الاقتصادي الوطني يخضع لشروط دخول مقيدة أو لتراخيص مسبقة، ما يحوّل المنافسة إلى استثناء والامتياز إلى قاعدة.
اقتصاد شبكات النفوذ والعلاقات
وأظهر البحث الإستراتيجي، أنّ الريع يتمثل في أشكال متعددة، منها التراخيص الاحتكارية للاستيراد والتصدير، والمنح المالية والتسهيلات الجبائية الموجهة نحو فئات محددة من رجال الأعمال، إضافة إلى الاحتكارات القانونية والاتفاقات غير المعلنة بين بعض الفاعلين الاقتصاديين الكبار، إلى جانب عمليات تمليك أو كراء أراضٍ بأسعار تقل كثيراً عن قيمتها الحقيقية، والريع المالي المتمثل في القروض الميسرة التي لا تُمنح على أساس الكفاءة أو الجدوى الاقتصادية، بل وفق شبكات النفوذ والعلاقات.
ويخلص التقرير إلى أنّ هذا النمط الاقتصادي الريعي، أنتج منظومة مغلقة تكرّس مصالح نخبة محدودة على حساب الأغلبية،
وهو ما أضعف روح المبادرة الفردية، وقلّل من الاستثمار في القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة، وحال دون تطور الشركات الصغيرة والمتوسطة. كما ساهم في إفقار الطبقة الوسطى وتوسيع الفجوة الاجتماعية، إذ أصبحت الثروة تتركز تدريجياً في أيدي مجموعات قليلة تستفيد من قربها من دوائر القرار.
وتؤكد الدراسة، أنّ غياب المنافسة الحقيقية أدى إلى تباطئ النمو الاقتصادي، حيث تُقدّر الخسارة في إنتاجية العمل بنحو 5% سنوياً، وهو ما يوازي ما يقارب خمسين ألف فرصة شغل مهدورة كل عام.

ولفتت الدراسة الاستراتيجية، إلى أنّ الإطار التشريعي والإداري التونسي، يعدّ من أكثر العوامل تغذية للريع، إذ لا تزال المنظومة القانونية، وعلى رأسها قانون الاستثمار الصادر سنة 2016، معقدة ومتشعبة إلى حد يثبط المبادرات الاقتصادية الجديدة.
وتم عرض تفاصيل أنظمة التراخيص، ضمن قانون الإستثمار، بينها وجود 243 نظاماً، تمتد على أكثر من 220 صفحة من النصوص التفصيلية، ما يجعل المستثمرين في مواجهة مسار بيروقراطي مرهق قد يستغرق من ستة أشهر إلى سنتين للحصول على الموافقات الضرورية، وهذا ما يعيد إنتاج شبكات الوساطة والمحسوبية، ويعطي للسلطة الإدارية مجالاً واسعاً للتحكم في منح التراخيص أو حجبها بما يخدم مصالح أطراف معينة.
الإصلاح المطلوب جدريا..
وشددت الخبيرة الاقتصادية، على أنّ الإصلاح الجذري للاقتصاد التونسي، يتطلب تفكيكاً ممنهجاً لبنية الريع وإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة.
واقترحت الدراسة جملة من الإصلاحات من بينها:
** تحرير الأسواق
** تعزيز دور مجلس المنافسة، عبر منحه الاستقلالية والموارد البشرية والمالية الكافية، لمراقبة الاحتكارات وملاحقة الكارتلات.
** إعادة تصميم السياسة الجبائية على أسس العدالة..
** إلغاء الامتيازات الضريبية غير المبررة..
** توسيع القاعدة الضريبية، لتشمل الأنشطة الريعية..
** فرض ضرائب تصاعدية على الأرباح العقارية والمالية غير الإنتاجية.
ويرى التقرير أن الإصلاح الجبائي هو ركيزة العدالة الاقتصادية، لأنه يحدّ من تركّز الثروة ويعيد توزيع الموارد بما يخدم التنمية المتوازنة.

وأوصت الدراسة الاستراتيجية، بإعادة توجيه السياسة الاستثمارية نحو القطاعات المبتكرة والمناطق الداخلية المهمشة، وتوحيد الهياكل المانحة للحوافز، بما يضمن وضوحاً أكبر للمستثمرين، ويحدّ من الفساد الإداري.
البنوك.. والقروض.. واللوبيات الاقتصادية
وانتقد تقرير الخبيرة، هالة بن حسين خلادي، على دور البنوك في اقتصاد الريع، مبرزة تركّز القروض في أيدي مجموعات اقتصادية كبرى، بما أعاق الشركات الصغرى والمتوسطة، داعية إلى الحاجة لإصلاح القطاع البنكي بما يتيح وصولاً أوسع إلى التمويل بشروط منصفة.
كما شدّد على ضرورة رقمنة الإدارة العمومية، عبر إنشاء بوابات موحدة للخدمات الإدارية والتصاريح التجارية، وتقليص التعامل المباشر بين المواطن والإدارة للحد من الرشوة وتعزيز الشفافية.
واعتبرت أن التحول الرقمي ليس ترفاً تقنياً، بل “أداة استراتيجية لتجفيف منابع الريع الإداري والفساد الصغير”.
مكافحة الاقتصاد الريعي
ويرى المعهد أنّ مكافحة الاقتصاد الريعي لا يمكن أن تقتصر على المركز، بل يجب أن تشمل الجهات عبر مقاربة ترابية عادلة. لذا دعا إلى إنشاء مناطق اقتصادية شاملة في المناطق الداخلية، تستلهم التجربة الرواندية في تمكين المؤسسات الجهوية الصغيرة والمتوسطة من النفاذ إلى الأسواق والتمويلات العمومية بشفافية.
كما أوصى بربط توزيع الموارد العمومية بمعايير موضوعية للأداء الجهوي، بما يضمن عدالة مجالية ويحد من الاحتكار المحلي للفرص الاقتصادية.
وتخلص الدراسة إلى أن بقاء تونس في دائرة الاقتصاد الريعي سيعمّق هشاشة النمو الاقتصادي، ويغذي الإقصاء الاجتماعي ويقوّض الثقة في الدولة، بينما يمثل الانتقال نحو اقتصاد تنافسي شفاف وعادل شرطاً أساسياً لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.

فالإصلاحات المقترحة ليست مجرد خيارات اقتصادية، بل هي مشروع وطني لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والشفافية وتكافؤ الفرص.
وأكّد المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، من خلال هذه الدراسة الهامة، أن القضاء على الريع هو الخطوة الأولى نحو استعادة الأمل في المستقبل، وإطلاق طاقات الشباب والمبدعين، وإرساء نمو حقيقي يعيد الاعتبار للطبقة الوسطى ويضمن لتونس مكانة اقتصادية رائدة في محيطها الإقليمي والدولي.
إضغط هنا لمزيد الأخبار
















