موازنة 2026: صدمة جديدة.. فهل يتحملها الاقتصاد التونسي المنهك؟

بقلم / جنات بن عبد الله
انتظر الرأي العام التونسي هذه السنة،في ظل تعتيم مطبق على المعلومة الرسمية، مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026 الذي أفرج عنه مجردا من فرضياته ومن وثيقة شرح الأسباب.
ورغم هذه النقائص الجوهرية التي تساعد على كشف خريطة طريق عمل الحكومة في السنة المقبلة، فقد حظي المشروع بمتابعات إعلامية مكثفة اتفقت جميعها على أن هذه الحكومة واصلت العمل في نفس مسار الحكومات السابقة وهو التقشف.
ولئن واصل مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026 على خطى ميزانيات 2023 و2024 و2025 بخصوص تمويل الميزانية من خلال اللجوء الى التمويل النقدي المباشر من البنك المركزي على خلاف السنوات قبل 2023 حيث كان اللجوء الى تمويل نقدي ولكن بطريقة غير مباشرة من البنوك المحلية، فإن مشروع ميزانية 2026 يحمل في طياته، هذه المرة، عديد المخاطر التي تشكل تهديدا حقيقيا على الأداء الاقتصادي والاستقرار المالي والاجتماعي.
البنك المركزي: الملجأ
وللمرة الثالثة على التوالي لجأت الحكومة إلى تغطية جزء من عجزها المالي لسنة 2026 باللجوء الى البنك المركزي كتجسيد لشعار “التعويل على الذات” على خلفية التقليص من الاقتراض الخارجي وخاصة من صندوق النقد الدولي في موقف معلن رافض لشروطه ذات الكلفة الاجتماعية المرتفعة والتي تمر عبر رفع الدعم والتفويت في المؤسسات العمومية والترفيع في الضرائب.
ولئن يبدو أن هذا الخيار من شأنه أن يجنب بلادنا هذه الكلفة الاجتماعية المرتفعة ويؤمن الاستقرار الاجتماعي ويقلص الضغوط على القرار السيادي، فانه لا يخلو من جهة أخرى من تهديدات لا تقل خطورة من التهديدات الاجتماعية بل هي أخطر بكثير وتمس أسس الاقتصاد الوطني ويصعب الخروج منها على المدى البعيد في ظل غياب الرؤية وشروط احتواء التداعيات.
هذه المخاطر والتهديدات تعود الى طبيعة التمويل النقدي من جهة، والى عقيدة السلطة السياسية في البلاد التي أرادت أن يكون هذا التمويل غير مشروط وممتد في الزمن من جهة ثانية، ليتحول الى قنبلة موقوتة يرحل انفجارها من ميزانية إلى أخرى. فتكرار عملية التمويل النقدي بمبالغ تصاعدية وبصفة مسترسلة، وفي غياب آليات التصدي للأضرار المحتملة،هو عبارة عن قذف يرقة السوس في الاقتصاد الوطني لا يمكن التفطن لأضرارها إلا بعد تلف كل مقوماته.
الحديث عن مخاطر التمويل النقدي لا يعني أن الاقتراض الخارجي يتميز بأفضلية، فكلاهما لا يخلو من مخاطر وتهديدات متعددة الأبعاد. فتوفير موارد مالية لميزانية الدولة لسنة 2026 عبر هذه الآلية، لا يمكن إدراجها ضمن خانة الانتصار على صندوق النقد الدولي، ولا خانة إثبات القدرة على التعويل على الذات، بما يفترض الانطلاق، من اللحظة، في التأسيس لبديل حقيقي يقوم فعلا على المفهوم الحقيقي للتعويل على الذات ممثلا في دفع عجلة الإنتاج في كل القطاعات والقطع مع القوانين المدمرة التي تم إسقاطها في إطار ما يسمى بأقلمة قوانيننا الوطنية مع المعايير الدولية وفي مقدمتها قانون استقلالية البنك المركزي.
التعويل على البنك المركزي لتفعيل ماكينة طبع الأوراق النقدية خيار مسموح به قانونيا واقتصاديا ولكن بشروط وفي حدود مضبوطة وأي تجاوز لهذه الحدود من شأنه إفراز نتائج عكسية يصعب رصدها في المدى الآني واحتواءها لاحقا.
التعويل على الذات.. مزيد خنق الاقتصاد
11 مليار دينار، هو المبلغ المقدر الذي سيوفره البنك المركزي لميزانية الدولة السنة المقبلة لمواجهة نفقات الدولة بعد حصولها على 7 مليار دينار سنة 2024 ونفس المبلغ في سنة 2025. الأكيد أن المواطن لم يلاحظ أي تغيير في حياته اليومية بعد اقتراض الدولة 14 مليار دينار ولن يلاحظ أي تغيير السنة المقبلة بعد حصولها على 11 مليار دينار أخرى وهذا طبيعي باعتبار أن الدولة ستتمتع بثلاث سنوات إمهال والتسديد سيكون على 15 سنة. ولكن الأكيد أن ضخ 14 مليار دينار ثم ضخ 11 مليار دينار أخرى دون مقابل إنتاج سيحدث صدمة ورجة قوية في النسيج الاقتصادي والدائرة المالية في البلاد.
إننا لسنا ضد وقوف البنك المركزي إلى جانب الاقتصاد الوطني ولكن في حدود ما يسمح به القانون المؤسس للبنك المركزي لسنة 1958 والذي كان يمول ميزانية الدولة بعنوان تسبقة في بداية كل سنة لا تتجاوز 10 بالمائة من المداخيل الجبائية للسنة المنقضية تسددها الدولة في نهاية السنة المعنية.
إن تحويل هذه المبالغ عن طريق الاقتراض لميزانية الدولة وتوجيهها نحو الاستهلاك يكون على حساب الاستثمار وخلق الثروة وخلق مواطن الشغل وبالتالي على حساب الموارد الجبائية المتأتية من الديناميكية الاقتصادية. وبعبارة أخرى، إن توجيه هذه السيولة إلى ميزانية الدولة من شأنها إضعاف قدرة البنوك على تمويل الاستثمار وإدخالها في حالة شح مالي يترجم في الواقع بتعميق حاجة الاقتصاد إلى السيولة لمواصلة قطاعات الإنتاج لنشاطها ومواجهة المؤسسات لاحتياجاتها اليومية والاستثمارية.
من جهة أخرى، فان ضخ هذه الأموال في الاقتصاد الوطني دون مقابل إنتاج يؤدي حتما الى ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم مما يتسبب في مزيد تدهور المقدرة الشرائية للمواطن في ظل سياسة تقشفية تمر عبر تجميد الانتداب في الوظيفة العمومية وتجميد الأجور. هذا الوضع الناتج عن سياسة التقشف المتبعة في مستوى المالية العمومية يقابله أيضا صعوبات في القطاع الخاص بسبب شح السيولة في البنوك فضلا عن ارتفاع نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي وهي نسبة تسببت في تدمير جميع محركات النمو من استهلاك واستثمار وتصدير وما وراءه من إنتاج.
وفي الوقت الذي دخل فيه الاقتصاد الوطني نفقا مسدودا بسبب ارتفاع نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي وما أفرزه من ركود اقتصادي ترجم اجتماعيا وماليا بصعوبات هيكلية، لم يتردد مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026، في إعطائه صدمة جديدة تفيد المؤشرات الهيكلية بعدم قدرة اقتصادنا على تحملها.
** محللة اقتصادية وخبيرة في قضايا التنمية
إضغط هنا لمزيد الأخبار
















