أهم الأحداثالمغرب العربيدولي

جنوب الجزائر: تهميش رغم الثروة.. وسجون للأصوات المرتفعة

الجزائر ــ  الرأي الجديد

تشهد الجزائر في الآونة الأخيرة، ارتفاعًا لافتًا في أصوات شباب الجنوب، سواء عبر احتجاجات سلمية، أو عبر نداءات على وسائل التواصل الاجتماعي،في ظل التعتيم الإعلامي.

هذا الوعي المتنامي يعكس إدراكًا عميقًا لمفارقة مأساوية: جنوبٌ يطفو على بحارٍ من النفط والغاز، بينما يعيش شبابه في الفقر والتهميش والبطالة، وتُنقل ثرواته إلى خزائن الدولة دون أن ينالوا منها سوى التلوّث والحرمان.

فجوةٌ صارخة بين النصوص والواقع
وتكشف وضعية شباب الجنوب حجم الهوّة بين النصوص الدستورية والمواثيق الدولية التي التزمت بها الدولة الجزائرية من جهة، والواقع الميداني الذي يعيشه هؤلاء الشباب من جهة أخرى. فالجنوب يمثّل الخزان الأساسي للثروة الوطنية وعمود الاقتصاد الفقري، لكنّ سكانه يعانون ظروفًا لا تليق بكرامة الإنسان: بطالة خانقة، تلوّث بيئي متفاقم، غياب مرافق صحية وتعليمية لائقة، وانعدام تنمية محلية مستدامة.

القضية لا تقف عند حدود الحرمان الاقتصادي، بل تتجاوزها إلى انتهاك ممنهج للحقوق الأساسية المكفولة دستوريًا ودوليًا. فالمادة 35 من الدستور تنصّ على المساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز، والمادة 66 تضمن الحق في العمل، والمادة 21 تكرّس الحق في بيئة سليمة، والمادة 52 تؤكد حرية التعبير والتجمع السلمي. غير أنّ الواقع في الجنوب يكشف أنّ هذه النصوص تحوّلت إلى شعارات جوفاء تُسحق يوميًا بممارسات السلطة.

احتجاجات سلمية… وردٌّ أمني
وحين رفع شباب الجنوب أصواتهم لم يطالبوا بالمستحيل، ولم يلجؤوا إلى العنف، بل عبّروا بوسائل سلمية عن أبسط حقوقهم. نظموا وقفات احتجاجية، كتبوا بيانات، وبثوا مقاطع عبر شبكات التواصل الاجتماعي توثق معاناتهم مع البطالة والتهميش. غير أن رد السلطة لم يكن فتح قنوات للحوار أو البحث عن حلول، بل كان القمع والملاحقات القضائية.

في ولاية ورقلة والعاصمة الاقتصادية حاسي مسعود، حيث يتركز نشاط شركات النفط، خرج العاطلون عن العمل في احتجاجات سلمية مطالبين بمنصب يضمن لهم حياة كريمة، فوجدوا أنفسهم في مواجهة التضييق الأمني، المتابعات القضائية، بل وحتى التهديدات المستمرة.

قضية الشاب سفيان حمدات من ورقلة مثال صارخ: فقد تم إيداعه السجن في شهر جويلية 2025 وصدر بحقه حكم بسنتين حبس نافذ، لمجرد أنه عبّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن مظالمه الاجتماعية، وندّد بالبطالة والتهميش الذي يعيشه شباب منطقته.

الأمرُ نفسه انطبق على ياسين سويسي في حاسي مسعود؛ إذ لم يفعل سوى تصوير مقطع قصير قرب أحد آبار النفط يندّد فيه بـ«الحقرة» وتفشّي البطالة، مبرزًا المفارقة القاسية بين العيش بمحاذاة منابع الثروة وبين واقع اجتماعي شديد القسوة يرزح تحته هو وعائلته. ورغم سلمية فعله، تم إيداعه السجن في شهر أوت 2025.

كما تبرز أيضًا قضية السجينة عبلة قماري في تقرت، التي أودعت السجن منذ سبتمبر 2024 وصدر بحقها حكم بثلاث سنوات حبس، على خلفية منشورات وفيديوهات لها على فيسبوك عبّرت فيها عن رفضها للتهميش والإقصاء والفساد الإداري. وُجهت إليها تهم خطيرة من قبيل “الإساءة لرئيس الجمهورية” و“إنشاء حساب إلكتروني للترويج لأفكار أو أخبار من شأنها إثارة التمييز والكراهية في المجتمع”. غير أن جوهر قضيتها لا يخرج عن كونه تعبيرًا سلميًا عن آراء اجتماعية وسياسية مشروعة، ما يجعل اعتقالها مؤشرًا صارخًا على تحويل حرية التعبير من حق دستوري إلى جريمة يعاقب عليها القانون.

هذه الحالات تكشف بوضوح كيف اختارت السلطة مواجهة المطالب الاجتماعية المشروعة بالقمع والاعتقال بدلًا من الحوار والتنمية. إنها سياسة ممنهجة لإخضاع الجنوب وإسكات أي صوت يطالب بالحقوق، في تناقض صارخ مع التزامات الجزائر الدولية:

** فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يضمن في مادته 19 حرية التعبير، وفي مادته 21 الحق في التجمع السلمي.

** أما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية فيضمن الحق في العمل (المادة 6) والحق في الصحة (المادة 12). ما يحدث إذن ليس مجرد إهمال أو سوء تسيير، بل خرق واضح للدستور وللقانون الدولي لحقوق الإنسان.

آثار خطِرة على السلم الاجتماعي
الأخطر أنّ سياسة القمع، عبر إغلاق منافذ التعبير السلمي وتحويل المطالب الاجتماعية إلى تهم جنائية، تزرع بذور التطرّف.

فكثيرون قد ينجرفون إلى مواقف أكثر حدّة، لا عن قناعةٍ فكرية، بل كردِّ فعلٍ على الظلم والخذلان. ولم تكتفِ السلطة بسياساتها الراهنة بإفقار شباب الجنوب ماديًا، بل مسّت كرامتهم أيضًا: إذ تحوّل عددٌ منهم إلى «حُرّاس» على آبار النفط يستنشقون غازاتها السامّة، بينما تُحوٌل الخيرات بعيدًا عن مدنهم وقراهم.

كيف يمكن لدولةٍ تصف نفسها بـ«الاجتماعية» أن تترك جيلًا كاملًا يعيش البطالة والحرمان فوق أكبر ثروة في البلاد؟ وكيف يمكنها أن تبرر سجن شباب ونساء لمجرد أنهم صرخوا في وجه الظلم؟

نحو عقدٍ اجتماعي جديد يقوم على العدالة
لم تعد القضية «مشكلة تشغيل» فحسب؛ بل باتت قضية حقوقٍ وحريات. إنّه إخلالٌ جسيمٌ بالدستور الجزائري الذي يُفترض أن يكرّس العدالة الاجتماعية، ومناقضةٌ صريحة للمواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة. ما يجري اليوم انتهاكٌ يوميّ وصارخٌ للحقوق الأساسية: الحق في العمل والكرامة والبيئة السليمة وحرية التعبير والتجمع، والحق في التوزيع العادل لعائدات الثروة الوطنية.

ولتصحيح هذه المفارقة، لا بدّ من بناء عقد اجتماعي عادل يرتكز إلى ثلاث ركائز: ضمان الحقوق وحمايتها فعليًا، وتنمية تقوم على تقاسمٍ عادلٍ للعائدات عبر آليات شفافة وخاضعة للمساءلة، حوكمة تشاركية تجعل السكان شركاء في القرار والرقابة.

لقد غذّت سياسات المواجهة هذا الغليان: فاختيرت السجون بدل الإصغاء، والهراوات بدل الحوار. يصرخ شباب الجنوب اليوم: «نعيش فوق بحارٍ من الذهب الأسود، لكننا نموت فقراء؛ بلا عمل، بلا كرامة، بلا أمل». وبدل المقاربة الأمنية، يلزم اعتماد بدائل مؤسسية قابلة للتنفيذ  عبر إنشاء منصّات حوارٍ دائمة وآليات وساطة محلية في الجنوب، وإطلاق خطّ ساخن/آلية شكاوى مستقلة لتلقّي البلاغات ورصد الانتهاكات ومتابعتها بشفافية.

وبعد الانتقال من المقاربة الأمنية إلى بدائل مؤسسية مستدامة، تبدأ خارطة طريق قصيرة ومتوسطة المدى: إجراءات تهدئة فورية بوقف المتابعات المرتبطة بالتعبير السلمي، تليها جلسات حوار مُلزَمة زمنيًا مع ممثلي الشباب والمجتمع المدني بوثائق مخرجات علنية، ثم برنامج سنوي للتشغيل والخدمات موجّه وفق خرائط الفقر والبطالة، ومدعومٌ بـمؤشرات أداء قابلة للقياس وتقارير دورية تضمن الشفافية والمساءلة العامة.

وبناءً على ما تقدّم، تطالب منظمة شعاع لحقوق الإنسان بما يلي:

  • الإفراج الفوري وغير المشروط عن معتقلي الرأي في الجنوب وفي كامل التراب الوطني، ووقف جميع المتابعات المرتبطة بالتعبير السلمي.
  • فتح مسار حوار علني ومنتظم مع ممثلي الشباب والمجتمع المدني لوضع حلول عملية وعاجلة قابلة للتنفيذ.
  • التوزيع العادل لعائدات الثروة الوطنية عبر تخصيص نسبة مُعلنة وثابتة من عائدات النفط والغاز لبرنامج تنميةٍ مستدامةٍ للجنوب، بإدارةٍ شفافة وخاضعةٍ للمساءلة العامة.
  • إقرار أولوية ونِسَب تشغيل محلية ملزِمة لأبناء الجنوب في الشركات العاملة، مع شفافية كاملة في إجراءات التوظيف والمناقصات.
  • حماية البيئة والصحة العامة عبر خفضٍ ثم وقف الحرق الروتيني للغاز، وإجراء تقييمات أثر بيئي مستقلة ونشر نتائجها، مع تعويض المتضرّرين وجبر الضرر.
  • تعزيز الشفافية والحوكمة بنشر بيانات الإنتاج والعقود والإيرادات والجباية المحلية وخرائط توزيع العائدات وأثرها الاجتماعي، وإنشاء آلية رقابة مستقلة لمتابعة التنفيذ وتقديم تقاريرٍ علنيةٍ دورية.

إن تبنّي هذه الإجراءات يمثّل الحدّ الأدنى لبناء عقدٍ اجتماعي جديد قائم على العدالة، ويؤسّس لمسارٍ عملي يعالج أسباب الاحتقان ويحمي السلم الاجتماعي. وتدعو منظمة شعاع إلى البدء الفوري في التنفيذ وفق جدول زمني واضح وآليات مساءلة شفافة، بما يضمن مشاركة السكان ومراقبتهم لكل خطوة.

إضغط هنا لمزيد الأخبار

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى