استثمارات بدل تسديد الديون.. مدخل لإعادة الاستعمار.. وتفكيك الدولة الوطنية

بقلم / جنات بن عبد الله
يبدو أننا ندشن حاليا، مرحلة استخدام وتوظيف مسألة مديونية الدول التي باتت عاجزة عن السداد، بفعل الإفلاس، والأزمات المالية الداخلية، في الضغط عليها وابتزازها.
مبادرة جديدة تتحفنا بها منظمة الأمم المتحدة لفائدة البلدان الغارقة في المديونية لإنقاذها من الإفلاس، باعتبار عجزها عن التسديد في محاولة منها للعب دور الوكيل عن “نادي باريس” وعن صندوق النقد الدولي، الى جانب وكلاء جدد ظهروا على السطح بعد الحرب على غزة من بلدان وكيانات.
مبادرة “مقايضة الديون الخارجية مقابل استثمارات” تخرج بها الأمم المتحدة، وكأنها قارب نجاة لهذه البلدان من خلال “تنفيذ مشاريع تتكيف مع التحديات المناخية، وتساهم في تحسين المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية” كما عرفتها المنظمة، وتروجها الحكومات التي انخرطت في هذه المبادرة، التي تمثل أحد المحاور الأساسية في أجندة النظام الاقتصادي العالمي، من خلال ذراعه المالي، صندوق النقد الدولي.
“مقايضة الديون الخارجية مقابل استثمارات”، هو حينئذ المصطلح الأممي لآلية تحويل الديون الخارجية إلى استثمارات الذي وضعته لوبيات المال للنظام الاقتصادي العالمي، في اطار برنامج الإصلاح الهيكلي لاقتصاديات البلدان الفقيرة والنامية، لتحويل ملكية أصول وممتلكات شعوب هذه البلدان لفائدة الشركات العالمية ورأس المال العالمي، الذي هو في قبضة اللوبي الصهيوني المسيحي منه واليهودي، وذلك في اطار المرحلة الأخيرة من مسرحية مساعدة هذه البلدان على الخروج من الفقر والتخلف، عبر إقراضها، وتمويل مشاريع تدعي أنها تندرج في اطار أولوياتها التنموية.
أوهام.. وحسابات خاطئة
برنامج الإصلاحات الهيكلية انطلق في سبعينات القرن الماضي، وتوسع أكثر في منتصف الثمانينات، وتم الترويج له على أساس أنه سيؤمن التحاق هذه البلدان بركب الدول المتقدمة، ويؤمن الرفاه والازدهار لشعوبها.
اليوم وبعد سبعة عقود، وبناء على مؤشرات رسمية لهذه البلدان، لم تعرف شعوبها الا مزيدا من الفقر والتهميش تترجمها سنويا مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وللذين لا يزالون يتوهمون في حسن نية النظام الاقتصادي العالمي ومؤسساته المالية والأممية، نقول أن ما وصلت اليه هذه البلدان من تدهور اقتصادي ومالي ودمار على جميع الأصعد،ة لم يخرج عن السيناريوهات التي وضعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حسب روزنامة زمنية تتابع على ضوئها وعن قرب، كل الخطوات التي تسجلها اقتصاديات هذه البلدان من خلال آلية التعاون الفني التي تم وضعها لمتابعة عمل الإدارات والوزارات الوطنية، والنفاذ إلى كل المعلومات المتعلقة بالأمن القومي في جميع المجالات، في عملية اختراق ممنهجة وناعمة، تمكنت من خلالها هذه المؤسسات الدولية من إحكام قبضتها على هذه البلدان وحكوماتها، قصد استغلالها لفائدة أجندة ومصالح القوى العظمى في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية اساسا، سواء في مجلس الأمن القومي أو بقية المؤسسات الأممية أو الدولية، لمزيد بسط هيمنتها على العالم.
آلية الإستحواذ على مقدرات الشعوب
آلية تحويل الديون الخارجية الى استثمارات هي من أبشع آليات الاستحواذ ونهب مقدرات الشعوب، بطريقة قانونية، وبتزكية البرلمانات الوطنية. وهي آلية الفصل الأخير من مسار تفكيك “الدولة الوطنية” وتدميرها، باعتبارها تقوم على تحويل ملكية أصول وممتلكات الشعوب، إلى الشركات العالمية ورأس المال العالمي.
ويتوهم من يعتقد بأن مقايضة الديون الخارجية مقابل استثمارات، هي عملية لفائدة البلدان الغارقة في المديونية، حيث أن التسمية توهم بتنازل الدولة الدائنة عن مستحقاتها، واستثمار هذه المستحقات في مشاريع تنموية تعود بالنفع على شعوب هذه البلدان، والحال أنه، تاريخيا، كل عملية إسقاط لديون خارجية كانت مدخلا للاستعمار.
طرح لا يخلو من السذاجة والغباء، بل لنقل إنه طرح لا يخلو من استبلاه الشعوب، واستخفاف بعقولها، حيث أن قروض صندوق النقد الدولي، وأيضا القروض الثنائية من قبل الدول المتقدمة الاستعمارية، تندرج كلها في إطار تصور شيطاني، يرمي إلى إسقاط البلدان النامية والفقيرة في فخ المديونية، باعتبار أنه كلما اقترضت هذه البلدان إلا وازدادت فقرا وتخلفا.
من هذا المنطلق تأتي “آلية تحويل الديون الى استثمارات”، لالتهام ما تبقى في اقتصادياتها من أصول وممتلكات الشعوب من موانئ ومطارات ومؤسسات عمومية استراتيجية في جميع المجالات، بما في ذلك مجال المياه والطاقة المتجددة، وهي المجالات المستهدفة من قبل مبادرة الأمم المتحدة، حيث أن شعار المرحلة لا يزال مرتبطا بالتنمية المستدامة، والطاقة النظيفة، وهو مدخل استدرج له العالم لخدمة مصالح الشركات العالمية والعابرة للقارات، للتمويه والتضليل والضحك على الذقون.
برنامج لتفكيك “الدولة الوطنية”
آلية تحويل الديون الى استثمارات جاءت كمدخل لإعادة الاستعمار المباشر للبلدان التي سوقت لشعوبها أنها تحصلت، في وقت ما، على استقلالها والحال أن قرارها السيادي لم يخرج من مسؤولية عواصم البلدان الاستعمارية التي تباهت، عند ما يسمى بالتحرر الوطني لهذه البلدان، بالوقوف الى جانبها ومساعدتها، من خلال تقديم التمويل ومنح القروض، في إطار برامج تبتكر في كل عقد عنوانا جديدا لتوحي باستقلالية هذه البرامج وتدرّجها، والحال أنه برنامج واحد وبتسميات متنوعة ومختلفة، وهو برنامج تفكيك الدولة الوطنية وإعادة الاستعمار المباشر.
إن اعلان الأمم المتحدة عن هذه المبادرة، هو إعلان من قبل النظام العالمي بانتهاء الهدنة المفتعلة من قبل القوى العظمى لشعوب العالم النامي والفقير، هدنة قامت على التضليل والخداع والكذب على الشعوب، للوصول إلى لحظة الحقيقة، حقيقة أن هذه الشعوب لا تملك قرارها وعليها اتباع المسار، مسار التبعية والتهميش.
وعلى غرار دول مماثلة، أعلنت تونس عن انضمامها لهذه المبادرة وذلك يوم الثلاثاء 5 أوت 2025 على لسان رئيسة الحكومة في مجلس وزاري، خصص لاستعراض قائمة أولى للمشاريع التي سيتم عرضها للمقايضة، في إطار اتفاقيات وصفت بالمتكاملة بين الجهات المدينة والدائنة والمانحة.
أين السيادة.. أين القرار الوطني ؟؟
ولإضفاء النزعة الوطنية على هذا التوجه حرص البلاغ الصادر عن رئاسة الحكومة على التأكيد على أن قائمة المشاريع هذه نابعة من مقترحات المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم، في محاولة من السلط العمومية الإيهام بأن هذه المبادرة تستجيب لأولوياتنا التنموية، دون التعرض إلى تفاصيل المبادرة وبنود الاتفاقيات التي ستبرم مع الجهات الأجنبية.
وفي حقيقة الأمر هذه الاتفاقيات هي اتفاقيات بيع البلاد ومقدرات الشعب للمستثمر الأجنبي، الذي لا نعرف هويته وجنسيته باعتبار أن الدولة المانحة لتونس هي التي تتولى بيع سندات الدين السيادية التونسية لشركة عالمية بقيمة أقل من القيمة الحقيقية لتبادر هذه الشركة الى الدخول الى تونس عبر البنك المركزي التونسي الذي يتسلم سندات الدين مقابل حصول الشركة الأجنبية، في اطار التوافق مع السلط العمومية، على حصص في مشاريع عمومية استراتيجية، وذلك بمقتضى تفريط الدولة في ملكيتها وملكية الشعب التونسي لفائدة الشركة الأجنبية.
عملية بسيطة يتم بمقتضاه تجريد الشعب التونسي من ممتلكاته في صمت وهدوء دون دبابات ولا ضجة إعلامية ولا تهديدات، حيث تتحصل الدولة الدائنة على مستحقاتها أو جزء هام من مستحقاتها من الشركة الأجنبية التي، وبجرة قلم، تقضم جزءا من السيادة الوطنية، من خلال الحصول على حصص في مشاريع عمومية وشركات استراتيجية بعنوان الامتلاك، ليتوسع نفوذها بعد ذلك وابتلاع جميع الحصص في مرحلة لاحقة.
وهكذا يغلق ملف السيادة الوطنية، والدولة الوطنية، والقرار الوطني، ليرتع رأس المال العالمي في الأوطان.
هذا ليس من باب الخيال، ولكن السيناريو الذي خططت له القوى العظمى منذ عقود للهيمنة على العالم.
** جامعية وخبيرة في التحليل الاقتصادي واستراتيجيات التنمية
إضغط هنا لمزيد الأخبار