أمريكا تحمي اقتصادها.. وتونس تحتفي بشراكة مع أوروبا مدمرة للاقتصاد
** تحتفل الحكومة التونسية غدا بمرور 30 عاما على توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي

بقلم / جنات بن عبد الله
في الوقت الذي تعلن فيه واشنطن، عن إجراءات حمائية لمنتجانها المصدرة للخارج، تحتفي تونس يوم غد بتوقيعها على اتفاقية الشراكة مع أوروبا، دون تقييم أو مراجعة..
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حربا تجارية على العالم بسبب عجز الميزان التجاري الأمريكي، دون تردد ولا مجاملات، شملت الحليف قبل العدو وأغرق العالم في مستنقع الترفيع في الرسوم الجمركية ضاربا عرض الحائط مبادئ وقواعد أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة والنظرية الليبرالية وتحرير التجارة الخارجية التي تقوم على الغاء الحواجز الجمركية.
مفارقة لافتة ومحبطة
في المقابل تستعد وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج للاحتفال بالذكرى الثلاثين لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي المبرمة في 17 جويلية 1995 والتي بمقتضاها تم الغاء الرسوم الجمركية أمام منتوجات دول الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت الذي تخوض فيه الولايات المتحدة الامريكية حربا هوجاء من أجل تكريس الحمائية من خلال الترفيع في الرسوم الجمركية لإعادة التوازن لميزانها التجاري وحماية اقتصادها من الركود والبطالة، التقى وزير الشؤون الخارجية التونسي يوم 7 ماي 2025 بسفراء دول الاتحاد الأوروبي لإحياء الذكرى الثلاثين لمسار الغاء الرسوم الجمركية في اطار اتفاقية الشراكة لسنة 1995.
وبعيدا عن مقارنة لا تستقيم، من حق المواطن أن يتساءل عن معنى لهذا التضارب في موقف بلدين. فمن جهة، نجد بلدا يشن حربا من أجل الترفيع في الرسوم الجمركية وتكريس الحمائية. ومن جهة أخرى، نجد بلدا اخر يحتفل بمسار إلغاء الرسوم الجمركية ورفع الحمائية.
غياب التقييم التونسي..
وانطلاقا من أن لكل طرف حججه وتبريراته، فقد كشف ترامب، وبكل شفافية عن أسباب انخراطه في مسار الحمائية ورفضه لأحد اليات اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة المتمثلة في الرسوم الجمركية، لا يزال الجانب التونسي يرفع شعار الانفتاح وتحرير المبادلات التجارية دون الاستناد الى دراسات تقييم لاتفاقية الشراكة لسنة 1995، رغم مرور ثلاثين سنة، والتداعيات المحتملة لاتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” التي لم يتم توقيعها بعد ولكن تم التأسيس لإطارها القانوني خلال فترتي حكومتي الحبيب الصيد ويوسف الشاهد.
شراكة مع أوروبا مدمرة للاقتصاد.. مربكة للمجتمع
وفي غياب هكذا تقييم فإننا سنضطر، وسنكتفي بالرجوع الى أهم المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المسجلة في الفترة الأخيرة، باعتبار قانون التراكم، للوقوف على ما وصل اليه الوضع الاقتصادي في تونس من زاوية نتائج الميزان التجاري التونسي الذي يختزل حقيقة تداعيات اتفاقيات الشراكة على الاقتصاد التونسي.
مؤشرات شديدة الخطورة
فمنذ توليه الرئاسة، أمر ترامب كبار مستشاريه بوضع نهج شامل لمعالجة العجز التجاري للولايات المتحدة الأمريكية الذي بلغ في سنة 2024 حوالي 918 مليار دولار معلنا عن المسار الذي سيتبناه والمتمثل في الترفيع في الرسوم الجمركية. كما أمرهم بإجراء تحقيقات حول معاملة الدول الأجنبية للشركات الأمريكية ومدى فرضها ضرائب اعتبرها، غير عادلة، تسببت في ارتفاع العجز التجاري الأمريكي.
في ذات السياق، لم يخف ترامب الأهداف الأخرى التي يتطلع الى تحقيقها، الى جانب إعادة التوازن للميزان التجاري الأمريكي ومنها خاصة تحقيق مداخيل إضافية للميزانية الفدرالية متأتية من توظيف الرسوم الجمركية، وحماية الصناعات الأمريكية من منافسة الصناعات الأجنبية، وخلق مواطن شغل ودفع الاستثمار الذي خرج من السوق الأمريكية الى أسواق خارجية بحثا عن الحوافز واليد العاملة الرخيصة، والمساومة والضغط على الشركات الأجنبية التي استفادت من السوق الأمريكية بسبب ضعف الرسوم الجمركية.
واتهم ترامب عديد البلدان بالقول: «انهم يأخذون سياراتنا ولا يأخذون منتجاتنا الزراعية”، في إشارة الى بلدان الاتحاد الأوروبي التي اتهمها بمعاملة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل سيء تسبب في تسجيل الميزان التجاري الأمريكي خسائر ضخمة أوصل عجز الولايات المتحدة الأمريكية مع الاتحاد الأوروبي الى حوالي 235.6 مليار دولار في سنة 2024 مسجلا ارتفاعا ب 12.9 بالمائة مقارنة بسنة 2023. وأوضح أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت غنية عبر التاريخ عن طريق الرسوم الجمركية وأنه سيعود الى هذه الطريقة”.
الحمائية.. طريق السيادة الحقيقية
ومن التصريحات الصادمة التي أدلى بها وصفه لاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “نافتا” بين الكندا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك لسنة 1989 “بأنها أسوأ اتفاقية تجارة أبرمت في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية”.
25 بالمائة من الرسوم الأمريكية على الصادرات التونسية
في المقابل، وفي ظل هذه الحرب التي شنها ترامب على النظام التجاري العالمي وعلى اتفاقيات التجارة الحرة والتي أدخلت العالم كله في حالة اللا يقين والشك في جدوى تحرير المبادلات التجارية واتفاقيات التبادل الحر، لم نسجل في تونس أي تحرك في اتجاه تقييم اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي..
فائض وهمي.. مقاربة خاطئة
فلم تسجل تونس من جهة أخرى أي تحرك في اتجاه تطبيق النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات الذي أقره صندوق النقد الدولي في سنة 2010 والذي بمقتضاه يتم الفصل عند احتساب الميزان التجاري بين صادرات الشركات المقيمة والشركات غير المقيمة التي تنشط في اطار المناولة باعتبار أن مداخيلها من التصدير لا يتم استرجاعها الى تونس، رغم التزام محافظ البنك المركزي التونسي السابق بذلك وقيام موظفي المعهد الوطني للإحصاء بدورات تكوينية في المجال بالخارج.
الإصرار على عدم تنفيذ النسخة السادسة ومواصلة العمل بالنسخة الخامسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات، بمعنى ادماج صادرات الشركات المقيمة مع صادرات الشركات غير المقيمة رفع من حجم صادراتنا وأوهم بأن لتونس فائض تجاري مع فرنسا وإيطاليا والحال أن هذا الفائض الوهمي متأت من صادرات الشركات الفرنسية والإيطالية وغيرها المنتصبة في تونس في إطار قانون 1972 حيث أن مداخيل صادراتها لا تعود الى تونس بمقتضى مجلة الصرف التونسية وتطبيق النسخة الخامسة من دليل احتساب ميزان المدفوعات.
عجز تجاري خطير
هذا التوجه تسبب لتونس في تسجيل عجز تجاري خطير وغير مسبوق خلال الأشهر الستة الأولى من سنة 2025 بلغ 20 مليار دينار (19.420 مليار دينار) لتبلغ نسبة تغطية الواردات بالصادرات 31.2 بالمائة. في حين أن العجز المعلن عنه رسميا، خطير هو أيضا ولا يتجاوز 10 مليار دينار (9.900 مليار دينار) بما يجعل نسبة تغطية الواردات بالصادرات في حدود 76 بالمائة وهو رقم يجانب الحقيقة ويسمح للاتحاد الأوروبي بزعامة فرنسا بالاختفاء وراء هذه الأرقام الخاطئة للادعاء بأن لتونس فائض تجاري بما لا يترك مجالا للشك بخطورة اتفاقية الشراكة ورفع الرسوم الجمركية أمام منتوجات الاتحاد الأوربي على الاقتصاد التونسي.
هذا الخطر المتأتي من تخفيض الرسوم الجمركية الى حد الإلغاء على المنتوجات الصناعية الأوروبية، في مرحلة أولى، منذ سنة 1996، تسبب في تدمير الصناعات الناشئة التونسية التي وجدت نفسها عاجزة عن منافسة المنتوجات الأوروبية، رغم ادعاءات جدوى برامج التأهيل التي اتجه تمويلها خاصة نحو الشركات الأجنبية المنتصبة في تونس. كما تسبب في تدمير مواطن الشغل ودفع شبابنا الى أحضان قوارب الموت.
خبراء ومختصون يحذرون
هذا الخطر الذي نبه اليه عدد من المختصين التونسيين، تعرض له تقرير قام به البنك الدولي بالتعاون مع المعهد الوطني للإحصاء حول ملف التشغيل في تونس في سنة 2013 والذي لاحظ فيه أنه فيما بين سنتي 1996 و2010، اضمحل 55 بالمائة من النسيج الصناعي التونسي. وهناك 10 الاف مؤسسة صناعية تونسية بمعدل طاقة تشغيلية ب 40 شخص اضمحلت خلال نفس الفترة.
هذا الوضع استمر الى اليوم، بل أن سياسة تحرير المبادلات توسعت منذ سنة 1995 لتشمل، الى جانب المنتوجات الصناعية، المنتوجات الفلاحية والخدمات والاستثمار. ورغم الصعوبات التي يشكو منها الاقتصاد التونسي والتي ترجمتها نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي سجل خلال الثلاثي الأول من سنة 2025 مستوى سلبيا بلغ 0.2 بالمائة مقارنة بالثلاثي الرابع لسنة 2024، ورغم تمرد ترامب على اتفاقيات التبادل الحر، لم نسجل أي تحرك في تونس في اتجاه مراجعة هذه الاتفاقيات، أو حتى محاولة تقييمها وتقييم اثارها على الاقتصاد الوطني.
دمار على مستوى القطاعات
هذه الاثار السلبية تؤكدها النتائج على المستوى القطاعي، وهي كفيلة بترجمة حجم الدمار الذي دفع اليه اقتصادنا الوطني بخيارات وتوجهات أطلق عليها ترامب اليوم النار وشن عليها حربا لا يدري العالم مالاتها، بل دخل في حرب ضد عولمة جائرة وظالمة استعرف بها بعد أن اكتوى الاقتصاد الأمريكي بنارها ومست أسسه مقابل صعود قوى اقتصادية أخرى أصبحت تنافس الاقتصاد الأمريكي في ريادته.
فبعد أن استقر نمو القطاع الفلاحي في معدل سنوي في حدود 10 بالمائة، لم يتعد خلال الأشهر الستة الأولى من السنة 2.8 بالمائة. أما القطاع الصناعي فيبدو أنه قد استقر في المنطقة السلبية ليسجل نموا بنسبة 2.2 بالمائة. قطاع الطاقة لم يشذ عن بقية القطاعات ليسجل هو أيضا تراجعا بنسبة 3.9 بالمائة الى جانب قطاع الخدمات بنسبة سلبية ب 0.2 بالمائة.
ويعتبر البناء والتشييد القطاع الذي حال دون مزيد تدهور نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي بتسجيله نسبة نمو إيجابية ب 4.5 بالمائة.
وضع اجتماعي واقتصادي معقد
خطورة الوضع الاجتماعي والاقتصادي يترجمها أيضا الطلب الداخلي بشقيه الاستهلاك والاستثمار ليسجل خلال نفس الفترة تراجعا بنسبة 1.5 بالمائة، وهو ما يعني تآكل الاستهلاك وتآكل الاستثمار.
ولئن يفسر الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في تونس بعوامل داخلية وخارجية أخرى، الا أن الأكيد أن لسياسة الانفتاح وإلغاء الرسوم الجمركية دور في تفقير ميزانية الدولة وتدمير المؤسسة الاقتصادية وجميع القطاعات المنتجة بسبب المنافسة غير العادلة في سوقنا الداخلية.
إضغط هنا لمزيد الأخبار