تونس: دبلوماسية “الفرص الضائعة”..

بقلم / صالح عطية
أنهى وزير الخارجية، محمد علي النفطي، زيارة إلى قطر، بدعوة من الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري، استغرقت يومين.
كانت الزيارة (18 و19 ماي الجاري)، مفاجئة شيئا ما، وكأنّ الوزير النفطي، كان في مهمة مستعجلة، ولغاية محددة، لم يكشف عنها إلى الآن، ولم يشير إليها البيان المشترك بين البلدين.
وبعيدا عن الجانب البروتوكولي للزيارة، وما تضمنه البيان المشترك، من عبارات وجمل تتكرر في حقيقة الأمر في جميع البيانات المشتركة، سواء بين البلدين، أو في مستوى العلاقات السائدة صلب النظام العربي برمته، فإنّ السياق العام الذي تنزلت فيه هذه الزيارة، توقيتا ومضمونا، تبدو جديرة بالتناول التحليلي..
فقد مرّ على تأجيل اجتماع اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، زهاء العام ونصف العام، دون أن تلوح في الأفق، مؤشرات لانعقاده، ما يعكس “مشكلا” حقيقيا، يرتبط في الأغلب الأعم، وحسب تقديرنا، بالتعاطي التونسي مع الملف القطري، حيث لا تبدو الدبلوماسية التونسية، حاسمة في قراراتها إزاء العلاقة مع دولة قطر، وهي ما تزال تتأرجح بين الاندماج ضمن علاقات ثنائية تقوم على المصالح، أو اعتماد الكثير من الريبة وأحيانا “سوء الظنّ”، بما يجعل كل خطوة تونسية نحو قطر، كمن يمشي على “حبال مهترئة”، أو هكذا جعلت الدبلوماسية التونسية علاقتها بالدوحة، دون أن يجد المرء مبررا لذلك إطلاقا.
قطر: دبلوماسية العصر الجديد
ورغم أنّ قطر اتجهت في السنوات الأخيرة، شرقا وغربا، وولّت وجهها، حتى نحو خصومها سياسيا، مثل مصر، والسعودية والإمارات العربية المتحدة، التي ساهمت في حصارها قبل بضع سنوات، فعقدت اتفاقيات جديدة، وقام أميرها “الشيخ تميم” بزيارات إلى بعض هذه البلدان، واستقبل كبار المسؤولين فيها، وأعاد ترتيب لوحة القيادة لديه، بما أعطاه زخما مهما في علاقاته الخارجية، وجعل مصر التي اصطفت خلف السعودية والإمارات في الحصار المذكور، تتحول إلى شريك للدوحة في الوساطة بين حركة “حماس” والكيان الصهيوني، يقينا من القيادة القطرية، بأنّ السياسة والعلاقات الدولية، ليست “طوباويات”، ولا هي “طوطم”، كما يقول الفلاسفة، وهو ما أعطى لبلاده، ولدوره شخصيا، أفقا جديدا، باتت معه قطر، رقما مهما في المعادلة الإقليمية والدولية.
في ظل هكذا تحولات على الصعيد القطري، وعلى مستوى خريطة التحالفات في المنطقة، كانت الدبلوماسية التونسية، منعزلة، بل منكفئة على نفسها، تعيد إنتاج مقولات قديمة، وقناعات، أثبتت الوقائع تهافتها، وهشاشتها.
والحقيقة، أنّ قطر بدأت منذ فترة في إعادة صياغة علاقاتها الإقليمية والدولية، بشكل يستجيب لتطلعاتها كدولة، باتت محورا في الخليج والشرق الأوسط، ليس من زاوية امتلاكها للثروات الأبرز في العالم، إنما لدورها في الوساطة في الملفات الشائكة في المنطقة، فتراها وضعت على الطاولة الملف اللبناني، الذي انتهت من خلاله إلى تسوية مهمة قبل أكثر من عشر سنوات، والتفتت إلى الفرقاء في السودان، فوضعت بينهم خارطة طريق مهمّة قبل أن يتدخل لاعبون إقليميون ودوليون، لإفساد الطبخة، واستضافت أعتى الحوارات بين واشنطن وحركة طالبان، انتهت باتفاق، تمكنت طالبان من خلاله من حكم أفغانستان (حاليا)، على الرغم من الدماء التي سالت، والزمن الذي صرف بين الولايات المتحدة وهذه الحركة، وحجم القوة والعنف الأمريكي الذي استخدم لإنهاء هذه الحركة.. لقد فشلت واشنطن في أن تأخذ ما تريد عبر القوة، وتمكنت بالوساطة القطرية، من الحصول عليه بالدبلوماسية، وبحراك احتضنته الدوحة، وانتهى إلى ما انتهى إليه من تسوية وصفت بــ “التاريخية”..
فرص تونسية ضائعة
في كل هذه الوساطات والحوارات والاتفاقات، كانت قطر تفتح ــ ضمنيا ــ أبواب المغرب العربي.. فعلاقاتها مع الجزائر والمغرب وموريتانيا، فضلا عن ليبيا، أكثر من متميّزة، وحجم المبادلات التجارية والاستثمارية، مع هذه “الكيانات”، رفيعة ولافتة، فيما تونس ما تزال “تراقب” و”تقرأ” الحسابات، و”تتمهّل”، وكأننا وحدنا في هذا العالم، بل وكأنّ قطر ستظل في انتظارنا، مكتوفة الأيدي، وستتوقف مصالحها على علاقاتها بتونس..
ولا بدّ من القول في هذا السياق، ودون أي مواربة، أو تردد، أنّ تونس فوّتت على نفسها وعلى شعبها، واقتصادها، فرصا مهمة مع قطر، منذ عهد الرئيس المخلوع، بن علي، الذي تعامل مع الملف القطري بأسلوبه الأمني الفاشل، وبعقلية إيديولوجية عفا عليها الزمن، كان جزء من اليسار التونسي الذي التحق بالحزب الحاكم أنذاك، قد أقنع بها السلطة، وجعل منها مادتها الرئيسية في تعاملها مع الملف القطري..
لم يربح بن علي شيئا من اصطفافه خلف السعودية أو الإمارات، رغم كل الأبواب التي فتحها لهاتين الدولتين، قانونيا وسياسيا ودبلوماسيا، لكنّه كان كمن يمسك بالجمر في علاقة بالملف القطري، رغم كل الاستعدادات التي أبداها الأمير القطري السابق، “الشيخ حمد”، واستمر فيها ابنه، “تميم” حاليا.
انتهى حكم بن علي بثورة، فيما شقت قطر طريقها نحو عالم آخر، لم تدركه دبلوماسية بن علي المخطئة، والتي كانت تنصت لرعيل من دبلوماسيين وسياسيين فاشلين، لم يقدروا على استشراف الأوضاع في المنطقة، فغلبت عليه المعاملة الباردة والمترددة والمرتبكة..
ما بعد الثورة.. و”الصمم الدبلوماسي”
بعد الثورة، اندفعت حكومة “الترويكا” نحو قطر بلا حسابات بن علي، وزبانيته، وحرصت على الاستفادة من زخم الدوحة السياسي والدبلوماسي، إقليميا ودوليا، لفتح اختراقات هنا وهناك، غير أن عددا من اللاعبين السياسيين في تونس، كان لهم رأي آخر، هو امتداد لنهج بن علي، حيث برعوا في “شيطنة الدوحة”، وحاولوا ربطها بتيار سياسي محدد، وجعلوا أي علاقة بين الحكم الجديد الذي أعقب الثورة، والقيادة القطرية، “أمرا مستحيلا” للغاية..
لم تستطع “الترويكا”، ومن بعدها حركة النهضة، المترددة والمرتجفة في قراراتها، وهي التي كانت تمثل الأغلبية في الحكم، أن تحدث اختراقا في جسم “الصمم الدبلوماسي”، الذي شيّدته بطانة بن علي، وبعض مكونات الدولة العميقة، وظلت تراوح مكانها، فلا هي استفادت من الدوحة، ولا هي استطاعت أن تخلص هذا الملف من براثن الايدولوجيا اليسارية، التي زادت في تعميق الهوة بين تونس وقطر، كما لم يحصل من قبل..
وعندما صعد الرئيس التونسي، قيس سعيد للحكم في 2019، ثم بعدما حصل في “يوليو 2021″، لم يستطع ساكن قرطاج، التخلص من هذا “الإرث القديم”، بل إنّ الأطراف التي لعبت على وتر “تعفين” ملف العلاقات القطرية التونسية، ما تزال ــ على ما يبدو ــ تفعل فعلها في الدبلوماسية التونسية إلى الآن..
وأحسب ــ متمنيا أن أكون خاطئا ــ أن وزير الخارجية التونسي الحالي، لم يتخلص بدوره من هذه “اللعنة القديمة” التي رافقت علاقات البلدين، وهو إذ اتجه إلى الدوحة مؤخرا، فلا نعتقد أنّه تجاوز “أطروحات الماضي”، ولم يتزحزح عنها قيد أنملة.. فما تزال دبلوماسية تونس ــ في رأينا ــ “تتقدم لكي تتأخر”، على رأي بعض المنظرين العسكريين، ولذلك جاء البيان المشترك، ضبابيا إلى حدّ كبير، رغم ابتسامات وزير الخارجية التونسي، محمد علي النفطي، التي تخفي ما لا تبديه..
لقد جاء في البيان ما يلي: “أكد الجانبان أهمية البدء في المفاوضات بين وزيري التجارة في البلدين، وذلك في إطار اتفاقية الشراكة الاقتصادية والتجارة الحرة المزمع التوقيع عليها، وبمشاركة مجلس رجال الأعمال القطري التونسي من أجل استكشاف فرص وآفاق جديدة للتعاون والشراكة بين البلدين”.
وأضاف البيان: “ورحّب الجانبان بالمشاريع والبرامج المقترحة في مجالات الصحة والأمن الغذائي والإسكان، والتعليم، والتعليم العالي، والإعلام”.
ويصحّ على هاتين العبارتين، القولة الشهيرة: “على من تقرأ زبورك يا داوود”..
إنّ المطروح على الدبلوماسية التونسية، أن تنفض غبار الإيديولوجيا، والإرث “البن علي” القديم، والتعامل الأمني مع دولة أثبتت علاقاتها الدبلوماسية، شرقا وغربا، أنها تخلّت عن منظومة التفكير هذه..
فهل ترى خارجية السيد محمد علي النفطي، فعلت ذلك، أو هي قادرة على أن تنحو ذات المنحى؟؟
أمل.. هل يتحقق ؟؟
إضغط هنا لمزيد الأخبار