أهم الأحداثمقالات رأي

النملة….  درس في السياسة

بقلم / نرجس التركي

 

عالم السياسة ليس عالم الطبيعة، رغم أن كلاهما يخضع لمقولة الضرورة، غير أنّ الضرورة الطبيعية حتمية، بينما مقولة الضرورة السياسية هي نتاج أفعال سابقة عنها اختيارية في معظمها، وهي في أغلب الأحيان فرض أمر واقع بما لا نريد، عادة في الحالات الخيرة للوجود..

ما يحدث اليوم، وما نسميه “بحكومة الضرورة”، لم يكن حتميا، بقدر ما كان نتاج فترة من غياب للوعي السياسي، الذي لم يحتكم إلى رؤية بعيدة المدى، تجعل المصلحة العليا هي البحث عن حل للمسألة الاقتصادية الخانقة والاجتماعية المزمنة، أولوية الأولويات.

إلى اليوم، وبعد المناكفات، الهزلية في معظمها، لم نر مشروعا تنمويا.. بل كشف هذا الوعي المغلوط وفي أول أزمة صحية لجائحة الكورونا، حقيقتين: أولهما حلو لحلاوة، تضيق الصدمة، والآخر علقم، مازالت آثاره في الأفواه: الأول، الكشف عن الفكر المعرفي العلمي والعملي للباحثين والأطباء، الذي بدا في غاية الحرفية، رغم أنه كان محكوما بظرفية محدودة، وبالمقابل كان فكر الصدمة السياسي المفرغ من كل مقولات، امتلاء الفعل، بل لعله كان امتلاء أشياء أخرى كالولاء مثلا…

اليوم، نقف أمام لحظة حاسمة، “لحظة اللاعودة إلى الوراء و المرور على الجمر” ، و لا خيار لنا إلا المضي قدما: ابواب منفتحة على كل الاحتمالات… أزمة صحية شاملة على الأبواب، ستكشف حجم القرار السياسي الذي وقع إمضاؤه اليوم، تحت مسمى “البروتوكول”، لعله في قالبه شكل خطاب علم وعمل إلى حدّ ما، وهذا “الحدّ ما”، يُقرأ لاحقا في شكل التمرير، حالة بحالة في قطاعات محددة، لكنه لن يُفعّل داخل مقولات
الردع ..

فوسائل النقل مثلا المكتظة بالمسافرين، لا يكفيهم وضع الكِمامات (بكسر الكاف)، حين يكون الجسد ملتصقا بجسد آخر غريب عنه في كل شيء، فقط تجمعهما مقولة “القرب الممنوع”، “ممنوع المفروض اللاممكن”… فبأي منطق وقع الإمضاء على البروتوكول، الذي يذكرني بالمعاهدات الدولية “صاحبة جلالة الحبر على الورق”، ومقولات “التنديد أمام المصدح”… وحتى لا نحمل لمن لا يحتمل ما لا يُحتمل، فإن الوعي بالوضع لا يكفي لمغادرة عنق الزجاجة…

من يفكر بأن الحكومة الحالية قادرة على الخروج بالبلاد من حالة الأزمة، هو واهم، لأنها بُنيت على مقولة “إقصاء الإقصاء”، الذي يتحمل الجميع فيه هذا الموقف السالب ضربا لمبادئ الديمقراطية في صميم الفعل السياسي… هناك في كل الديمقراطيات حزب الأغلبية بمقابل أحزاب أخرى، تعمل على خلق التوازن ضد كل أشكال العودة لمقولة الحزب الواحد…

وما حدث في تونس، هو ضرب للديمقراطية من الجهتين: منذ أن بدأ فكر الإقصاء يشتغل في البرلمان بين التمثيليات الحزبية، ووقوع معظم الأحزاب في فخ التجاذبات في غياب واضح الرؤية والتوجه، وصولا إلى الإقصاء لكل الأحزاب، في موقف من ترذيل المشهد السياسي، ولصورة تونس كتجربة ديمقراطية عربية ناشئة…

فحين لا يفكر السياسي إلا في لحظة ردة الفعل على استفزاز خطاب العنف، يكون حينها قد غادر السياسية من ثقب بابها الذي افتعلته أصغر كائنات الطبيعة.. وهو ما جرّ البلاد إلى أزمة ثقة ما بين السياسي وناخبه… وفي ظل غياب ذاك الحدس القوي لقراءة بعيدة المدى لما قبل ومع وبعد الحدث، وإمكانياته القريبة والمستبعدة، وكل الحيثيات التي تطرأ فجأة عبر الخطاب أو الفعل، وهو ما أدى بنا اليوم إلى “الوقوف على حافة الهاوية”..

ما يحدث اليوم، هو مسؤولية مشتركة، ولكنها مسؤولية شبح لا يمكن تحديد ملامحه، لأنها مسؤولية شبه موزعة، كما حِيك في تفريق “دم الرجل بين القبائل”..
فعفوك أيها المواطن الناخب، ومن اخترت أن تنسحب من اللعبة، فلن تجد من تحاسب على ما يحدث، فقد توزع الإثم بين الجميع..

وبمرارة مواطن يراقب عن كثب بشكل لصيق، كل خطوة حذاء نحو المنبر الإعلامي في حركته المتناثرة، وكل نفس يصدر عن صاحبه، وكل حرف وعدٍ نُطق وكُتب للشعب باسم الشعب، وبحركة من يغيب عن وعيه ويلتقط من حوله، فتات آثار جريمة التمويه المبعثرة في كل مكان… ليبصر “الكلّ – المسؤول”، حتى من توهم أنه فوق الشبهات عبر صمته عن اختيار “الشبهة المدللة”، “اللي بْطَاتْ برشا موش شوية على قلوبنا”، وما تزال تمارس شهواتها العنجهية في نزع وتنصيب من تريد… أما كان من الأجدر البحث عن مخرج آخر، عودة إلى روح القانون، في تغير تشكيلة الحكومة السابقة، بإبعاد من بهم شبهات، كي لا يُعاقب من لم يخطئ بخطإ من أخطأ؟ لكنا جنبنا البلاد الوقت والجهد الضائعين، ولاكتسبنا الوقت لمجابهة الأزمات التي تمرّ بها البلاد، أفضل من الدخول في مأزق آخر بعد المأزق السابق، والذي سيجرنا إلى مأزق لاحق؟ فمقولة الحتمية تصبح هنا مقولة الأمر الواقع…

وماذا بعد هذا ؟ ماذا ننتظر من مقولة الضرورة لحكومة “الإمكان الأخير”؟ أي قراءة يمكن إعطاؤها لطبيعة التشكيلة؟ وبأي منطق نقرأ التعثر في الأسماء والوقت؟ أو ليست إدارة نملة أكثر نجاعة، تقديسا لمقولة الطبيعة الحكيمة، من إدارة حكيم تعلقت عيناه بالسماء، فأسقطنا في البئر ؟

* أستاذة فلسفة وكاتبة

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى