أهم الأحداثمقالات رأيوطنية

تونس تواجه غزو تركيا وقطر / بقلم محمد هنيد

بقلم / محمد هنيد*

لم تتوقف في تونس خلال الأيام القليلة الماضية تجاذبات التصويت الذي كان مزمعا إجراؤه تحت قبة البرلمان بخصوص اتفاقيات تجارية واستثمارية بين تونس ودولتي تركيا وقطر. أثار التصويت لغطا وأسال حِبرا على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص، حيث نشطت الأذرع الإعلامية للثورة المضادة في وصف الاتقافية بأنها احتلال اقتصادي لتونس واستعمار جديد لبلاد إفريقية المسكينة. في المقابل اعتبرت قوى الثورة التي تمثل الطيف الشعبي الأكبر أن ما حدث ليس رفضا لاتفاقية مع قطر وتركيا بل هو تآمر على ثورة تونس واقتصاد تونس والاستثمار في تونس.

العنصر الأهم في هذا الملف ليس محتواه ومتضمناته، بل الأهم من كل ذلك إنما هي رمزيته فيما يتعلّق بمسارات التغيير الاجتماعي في المنطقة العربية قبل ثورات الشعوب وبعدها. إن رمزية الموقف في تونس من قطر وتركيا بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة يساهم كثيرا في تبيّن المشهد العربي على مستوى الفواعل والمكونات والصيرورة.

تونس.. الثورة والإسناد
في منتصف آخر شهر من سنة 2010 اندلعت ثورة الحرية والكرامة لتنتهي فصولها بهروب الطاغية بن علي خوفا من المشنقة التي قد ينصبها له شعبُه هو وأركان نظامه. هرب الجنرال وترك بقاياه بين مختبئ وهارب ولاجئ ومتنكّر لكنّ أذرعه المالية والإعلامية سرعان ما تمكنت من امتصاص الصدمة الثورية الأولى لتعود إلى الواجهة أكثر توحشا ورغبة في الانتقام.
تعثر المسار الثوري بسبب تكالب النخب على السلطة، وخاصة تلك المحسوبة على الثورة رغم أنها لم تشارك فيها من إسلاميين وقوميين ويساريين وليبراليين ممّن فاجأتهم الثورة كما فاجأت النظام نفسَه. ككل حركات التغيير عبر التاريخ فإنّ للحركة أعداءها وداعميها وهو ما حدث لثورة تونس بأن تكونت فيها جبهتان جبهة الثورة وجبهة الثورة المضادة.
خارجيا كانت دولة قطر من بين أول الدول العربية التي أعلنت مساندتها لتونس وهو الأمر الذي امتدّ منذ هروب بن علي إلى اليوم، حيث وصلت بالأمس القريب مساعدات طبية هامة لتونس من أجل مساعدتها على مواجهة أزمة كورونا. بقي الدعم القطري للثورة التونسية قائما مع كل الرؤساء والحكومات التي تعاقبت على البلاد ولم يتأثر مطلقا بطبيعة السلطة الحاكمة وقد بلغت قيمة هذه المساعدات مبالغ مالية كبيرة. أما تركيا فإنها لم تتوقف يوما عن إسناد ثورة تونس كما فعلت مع ثورات الربيع العربي عبر رفضها الاعتراف بالانقلاب العسكري في مصر أو منعها سقوط طرابلس في يد المشروع الانقلابي في ليبيا أو عبر إسنادها للثورة السورية ولملايين اللاجئين هناك.
لكن في الجبهة المقابلة تكونت قوى خارجية على مدار عشر سنوات تعمل على إجهاض التجربة التونسية ومحاولة إلحاقها بالتجربتين المصرية والليبية. قادت دول الخليج المساندة للانقلابات عمليات الفوضى والاضطراب في تونس سواء عبر أذرعها الإعلامية أو المالية أو السياسية.

لماذا قطر وتركيا فقط؟
إذا كانت الإجابة الأولى بديهية فإن وراء هذا الهجوم على قطر وتركيا في تونس خلفيات أعمق بكثير تتجاوز في دلالتها الفاعل التركي أو القطري. فمن الطبيعي جدا أن تكون أبواق الثورة المضادة وأذرعها الإعلامية معادية لكل المكونات والقوى السياسية الداعمة للثورة والمراهنة على نجاحها لأن نجاح الثورة واستقرار مسارها الانتقالي يعني نهاية هذه المنظومة وفناءها.
لكن لا بدّ من التنبيه إلى أن الشارع التونسي المؤمن بالثورة قد مرّ بمراحل مختلفة في مواجهة حملات تزييف الوعي التي تعرض لها خلال العقد الأخير بعد أن أثبتت السنوات الأخيرة خطورة الأذرع الإعلامية على الوطن نفسه لا على الثورة فقط. وهي الأذرع التي تمتلكها كلها قوى النظام القديم التي تحالفت مع القوى الإقليمية والدولية لإجهاض المشروع الديمقراطي.
نجحت دولة الإمارات في تكوين نسيج عميق مستفيدة من علاقتها القديمة مع نظام الرئيس المخلوع فموّلت قنوات إعلامية قادت الحرب على الثورة وعلى من يدعمها بما في ذلك دولة قطر. إن تشويه صورة قطر ليس هدفا في ذاته بل هو مدخل لشيطنة كل داعم للثورة وهو كذلك مدخل لمنع كل الدعم القادر على المساهمة في إنجاح المسار الديمقراطي في تونس.
ثم إن لشيطنة قطر روافد عربية أخرى وسياقات أكبر من السياق التونسي لأنها تدخل في إطار الهجوم  الذي أعلنه النظام الرسمي العربي على الدوحة بسبب مواقفها الداعمة للثورات ورفضها الاعتراف بمخارج الانقلابات. وهي الإطار الذي يتنزل فيه حصار قطر والمحاولة الانقلابية التي كانت تستهدفها. إن رمزية الفاعل القطري تنبع من كونه مكونا عربيا رفض الانصياع لمشاريع النظام الرسمي في ترسيخ الانقلابات.
أما تركيا فسياق مختلف عن السياق القطري لأنها دولة غير عربية وهي كذلك دولة قوية عسكريا وتتمتع باقتصاد هو من بين أقوى الاقتصادات العالمية اليوم. لكن الموقف التركي من الانقلابات العسكرية ودعمه للمسارات الديمقراطية الإقليمية جلب لها عداء النظام الرسمي الذي شارك كما ذكرت تسريبات تركية عديدة في الانقلاب الفاشل على الرئيس أردوغان.  نجحت تركيا في إحباط خطط كثيرة للفوضى سواء في سوريا أو في ليبيا أو حتى في تركيا نفسها. كما عملت أنقرة على إسناد المسار الانتقالي التونسي منذ بداياته إذ قدمت لتونس عددا كبيرا من المساعدات العسكرية والأمنية والطبية والتجارية الاقتصادية على فترات متباعدة.
لكن الحضور التركي المفاجئ في ليبيا ضاعف من هجوم أذرع الدولة العميقة في تونس بعد الاتفاقية الأمنية والتعاون العسكري المشترك مع حكومة الوفاق الشرعية. تدخلت تركيا في مواجهة قوات فرنسية وإماراتية ومصرية وأردنية ومليشيات سودانية وتشادية ومرتزقة من قوات فاغنر الروسية وغيرها من الخبراء العرب من جنسيات أخرى. هذا التدخل رجّح كفة حكومة الوفاق المعترف به وعطل المشروع الانقلابي وهو الأمر الذي استنفر منابر الفوضى في تونس.

الدروس والمآلات
لم يتأخر ردّ شعب تونس عبر فضاءات التعبير المفتوحة التي لا تسيطر عليها أذرع الدولة العميقة. فقد وصف نشطاء ومدونون وشخصيات وطنية ما حدث في تأجيل التصويت على الاتفاقية بأنه جريمة في حق تونس وفي حق شعب تونس. فقطر دولة غنية لا تحتاج إلى تونس بل العكس هو الصحيح حيث تتنافس الدول الأوروبية العملاقة على جلب الاستثمارات القطرية مثلما هو الأمر بين ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا. أما تركيا فقوة اقتصادية عالمية لا تمثل تونس بالنسبة إليها إلا سوقا صغيرة لا تكاد تذكر مقارنة ببقية الأسواق.
لكن الصراع ليس فقط صراعا بين قوى داخلية مناصرة للتغيير وللثورة وبين قوى مناصرة للفوضى والانقلابات بل إن صراعا خفيا يدور بين القوى السياسية والاقتصادية القديمة والقوى الجديدة. يمثل شمال أفريقيا برمته امتدادا تاريخيا وجغرافيا للاقتصاد الأوروبي وحديقة خلفية للأسواق الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية وهو ما يعني أنّ هذه القوى هي التي تحرّك بيادقها الإعلامية في تونس سواء ضدّ قطر أو ضدّ تركيا. هذا الخوف الأوروبي من خسارة الأسواق التونسية وخسارة الثروات المغاربية وخسارة تبعية هذه الدول إليها هو الذي يفسّر في جزء كبير طبيعة الحرب القائمة هناك.
إن مسارات التغيير التي انطلقت شراراتها من تونس أواخر سنة 2010 وامتدت إلى أغلب الدول العربية لا تزال تتفاعل إلى اليوم متسببة في تغيير حجم الفواعل وأوزانها. ثم إن تحرر الشعوب في المنطقة سيؤدي حتما إلى استعادتها سيادتها وقرارَها بشكل سيلغي تبعيتها التلقائية لقوى استعمارية امتصت ثرواتها وشوهت تاريخها وتسببت في تخلفها وفي قتل ملايين الشهداء.
من الطبيعي جدا أن تقاوم القوى التابعة للمنظومات الاستعمارية الكلاسيكية كلَّ خروج عن النسق القديم وكل تحريك لقطع الشطرنج التي بدأت بمغادرة مواضعها بفعل ثورة الحرية والكرامة. مسار التغيير في تونس وفي كامل المنطقة لن يتوقف وسيعيد صياغة واقع الأمة والأوطان سياسيا واجتماعيا واقتصاديا مُراجعا صياغة تحالفاته مع أشقائه في الوطن والعقيدة والتاريخ والمصير ولو كره الاستعمار وأبواقه.

المصدر: موقع “الجزيرة نت”

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى