أهم الأحداثمقالات رأي

د. خالد شوكات يكتب لــ “الرأي الجديد”: عندما يتحوّل العبث السياسي… إلى عبث اقتصادي

 

بقلم / د. خالد شوكات*


لو سلمنا بهذا المنطق، فلن يكون لدينا من نموذج سوى دولة غابرة، هي “ألبانيا أنور خوجة”، أو “كوريا الشمالية لأصحابها آل كيم”، التي أغلقت حدودها ورفعت شعار الاستغناء عن الخارج، فحتى الدول الأكثر مناهضة للإمبريالية، ككوبا وفنزويلا تطالب برفع الحظر عنها، حتّى تتمكن من نيل نصيبها من الاستثمار المالي الدولي، ولا مانع عندها أبدا، من مساهمة الصناديق المالية السيادية القطرية أو التركية.

وبحسب جهابذة الشعبوية السياسية في بلادنا، فإنّ أي شيء يشتم أن حركة “النهضة”  متحمّسة له، أو موافقة عليه، يجب أن نقوم نحن برفضه آليا، ويصبح تهديدا لاستقلالنا وسيادتنا، فأي استقلال هذا، وأي سيادة يمكن أن تهددها صناديق استثمارية، وإذا كان استقلالنا وسيادتنا بهذه الهشاشة، فالأكيد أنهما استقلال وسيادة مغشوشين، وهو ما لا يوافق عليه أي وطني يؤمن بأنهما معمّدان بالدم، ومحروسان بأرواح الشهداء، الذين سقطوا في سبيل هذا الوطن عبر الأجيال.

هناك تفسير منحرف للسيادة الوطنية، يريد بعض الشعبويين فرضه لتحقيق أهداف سياسية وأيديولوجية وحزبية ضيّقة، على حساب مصالح بلادنا العليا، خصوصا في هذه المرحلة الحاسمة والحساسة، جراء تداعيات الكورونا الخطيرة، التي تهدد اقتصادنا الوطني بالفشل والجلطة القلبية والدماغية، عبث سياسي يريد البعض تحويله إلى عبث اقتصادي هدام وخطير، فما معنى أن نغلق اقتصادنا أمام حركة الاستثمار الإقليمي والدولي.

اعتراض البعض على عدم الانخراط في حرب المحاور الإقليمية، لا يجب ان يعني قطع علاقاتنا الاقتصادية مع دول هذا المحور أو ذاك، فالمعنى الصحيح لعدم الانخراط في حرب المحاور، هو أن لا نسمح لطرف بتسخيرنا في حربه ضد الطرف الآخر، أمّا أن نوقف التعاون والعمل المشترك مع هذا الطرف، بحجّة أن لديه مشاكل مع طرف آخر، فهذا لا يمكن أن يسمّى إلا رعونة.

إذا حكّمنا المنطق الشعبوي، فسنقطع علاقاتنا مع الجميع… مع الاتحاد الأوروبي، لأن له ماضٍ استعماري مع بلادنا، ومع الولايات المتحدة لأنَّها قوّة إمبريالية داعمة لإسرائيل، ومع الصين لأنها قوة إمبريالية صاعدة ميزاننا التجاري شديد الاختلال معها، ومع تركيا لأن نظامها متورط في الحرب السورية، ومع قطر لأن لها علاقات طيبة مع الإسلاميين، ومع إيران لأنها ستنشر التشيع، وعلى هذا النحو، يجب أن نوقف جلب الاستثمارات الخارجية،  لأنه لا يوجد بلد لديه مستثمرون، إلا ولدينا طرف داخلي لديه اعتراضات عليه، فهل يستقيم مثل هذا المنطق مع اقتصاد بلد نامٍ، متطلع إلى جلب مزيد من الاستثمارات الخارجية لتحريك عجلته التنموية المتعثّرة.

هذا الخوف المبالغ فيه – الكاذب في غالبيته – على السيادة الوطنية والاستقلال، لا يتفق أبدا مع خصائص اقتصاد وطني عصري، يحتاج إلى انفتاح على العالم، وقدرات تنافسية، أحد أهم مقوماتها، القدرة على استقطاب الاستثمارات الخارجية، وأفضل هذه الاستثمارات،  بتأكيد الخبراء، ما جاء من مجالنا الشقيق العربي الإسلامي، لأنه الأقل شروطا، والأجدر بالأولوية.

البعض يريد إقناعنا، بأنّ قطر تحوّلت إلى دولة إمبريالية، وأن بمقدورها استعمارنا مثلا. حتى تركيا القوية، ومع اعتراضي الشخصي على جوانب في سيرة نظامها، لا يمكن لأحد أن يقنعني بأن لها أطماعا استعمارية في تونس، لأنه لا أحد برأيي قادر على استعمار تونس، فحتى الذين جربوا أقاموا ثلاثة أرباع قرن ورحلوا في النهاية. إن علاقاتنا بقطر وتركيا، تعود إلى عقود، ومن أرستها هي الدولة التونسية الوطنية المستقلة. ويفترض أن تناقش علاقاتنا الاقتصادية معهما، بناء على مصالحنا الاقتصادية المشتركة، لا من منطلق عبث سياسي يخرّب البيوت ولا يعمرها. وإذا رغبت دول المحور الآخر المخاصم لهما، في الاستثمار في بلادنا فأهلا وسهلا بها، وفي الاستثمار، فليتنافس المتنافسون على أرضنا.

لم يتكرِم أحد من المعترضين على مشاريع القوانين المقترحة، ببيان النقاط التي يعترضون عليها تحديدا، ولم أجد شخصيا شيئا استثنائيا يمس من السيادة الوطنية، فالامتيازات الجبائية والجمركية المطلوبة، هي امتيازات طبيعية تتفق مع قوانيننا المعمول بها سواء المتعلقة بالاستثمار أو الديوانة أو غيرها، وقد منحت لأطراف استثمارية وهيئات مالية إقليمية ودولية لها فروع في بلادنا، وما أرجوه فعلا أن نضع معايير موضوعية في تقييم السياسات العامة، وأن نغادر دائرة الخصومات الأيديولوجية والسياسوية الفاسدة.

نحن في أمس الحاجة إلى وضع سياسات وبرامج ومشاريع تنموية مشتركة مع أشقائنا، الذين يرغبون في إقامة شراكات اقتصادية معنا… نحتاج إلى شراكة تونسية تركية تصديرية نحو السوق الإفريقية، ونحتاج شراكة تونسية قطرية للنهوض بكثير من قطاعاتنا الاقتصادية الإستراتيجية، في النفط والغاز والنقل الجوي والبحري، التي تحتاج تأهيلا وعصرنة للمنافسة في الأسواق الدولية الواعدة.

نظام الرئيس بن علي، لم يكن لديه اعتراض يوماً على الشراكة مع تركيا الأردوغانية، وكانت هناك مشاريع مشتركة في هذا المجال، أما الشراكة مع قطر فقد كانت في أعلى مستوياتها عندما سقط النظام السابق، وبالتالي فإن “التهويش” السياسي الذي تمارسه بعض الأطراف الشعبوية، المنسوبة على النظام السابق جوراً، منتهى العبث بالمصالح الوطنية، وكم من كلمة حق أريد بها باطل.

هل يتصور البعض أننا إذا أغلقنا المجال أمام حركة الاستثمار القطري أو التركي، فإن الخاسر ستكون قطر أو تركيا مثلا… تونس نتيجة هذا العبث السياسي، تخرج اليوم للأسواق العالمية المالية، حتى تقترض بنِسَب فوائد عالية، والكل يعرف من هي الأطراف المهيمنة على هذه السوق، وإلى جيوب من ستذهب الفوائد الباهظة التي سندفعها، وهي حتما الخاسر في صد الباب في وجه الأشقاء، القطريين والأتراك، والسعوديين والإماراتيين.

عندما يبلغ الاستهتار أشده، يصبح الأشقاء ممن ينتمون إلى دائرة الأمة العربية والإسلامية،  أعداء، ونغمض الأعين من باب الضرورة على الآخر، الذي تعلّم أن يملي شروطه علينا، وهو أمر يعبّر عن الحال الذي أدركناه، حال احتقار الذات وإفلاس العقل السياسي جرّاء الشعبوية.

وهذه السيرة الغبّية، لا تتفق أثيوبيا والهند ودول كثيرة معها، فهذه البلدان تؤجر أراضيها لتكون مزارع كبرى لدول أجنبية، ولا تتفق معها باريس ولندن ونيويورك حيث تمتلك هذه الدول المعترض عليها تونسيا، استثمارات ضخمة احتلت مبانيها التاريخية.
فعن أي سيادة تتحدثون… الفقر والمديونية، لا الاستثمار، هو من يهدد السيادة والاستقلال.

* ناشط سياسي وكاتب

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى