1.المشهد الثقافيأهم الأحداثبانوراما

قصة ميلاد الإسلام السياسي من رحم الحركة الوطنية المصرية  

القاهرة ــ الرأي الجديد (مواقع إلكترونية)

“أقسم بالله العظيم أن أهب نفسي ومالي وما أملك فداء لوطني، وأن أُنفذ أوامر الجمعية دون تردد وبأمانة وإخلاص، وألا أُفشي سرها، وألا أشرب الخمر، ولا أغشى الفجور، وإلا كان جزائي الإعدام، والله على ما أقول شهيد”

كان هذا هو القَسَم الذي يقوله كل مَن ينضم لجمعية التضامن الأخوي السرية والمرتبطة بالحزب الوطني القديم، الجمعية التي أُسست لتقوم بالعمل الفدائي المقاوم للاحتلال الإنجليزي في مصر، في فترة من أشد الفترات أهمية وغموضا في العالم العربي، ففي تلك الفترة سقطت الدولة العثمانية “رجل أوروبا المريض” وقامت الثورة العربية الكبرى، ونشبت الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، وأُعيد رسم حدود كل الدول العربية. وخلال هذه الفترة التاريخية أيضا وُلدت الاتجاهات الرئيسية في الفكر السياسي العربي الحديث.
وتحت مظلة الدولة العثمانية، تشكّل الوعي السياسي العربي، فكان ميلاد الشعور الوطني وحركات التحرر من رحم التنظيمات السرية، وكذلك الفكر القومي العربي، الذي صاغ إطار الاجتماع السياسي في المنطقة العربية في المرحلة اللاحقة وحتى اليوم؛ حيث تشكَّل ذلك الفكر في مواجهة سياسات التتريك، وكرد فعل مضاد على صعود النزعة القومية التركية التي ازدادت حدتها خلال السنوات الأخيرة للدولة العثمانية، بعد صعود جمعية الاتحاد والترقي إلى سدة الحكم بالدولة العلية. إلا أن الرحم الذي حمل الفكر القومي العربي الحديث حمل كذلك جنينا آخر نمت نطفته وتبرعمت حول سؤال الإصلاح مع المحافظة على التقليد الإسلامي، جنين الإسلام السياسي الذي سيكون توءم الفكر القومي وعدوّه في الوقت نفسه. 

بين القاهرة وإسطنبول: كيف تشكّلت النزعة الوطنية المبكرة في مصر؟
خلال مطلع القرن العشرين، كانت الأستانة والقاهرة ودمشق تموج بالجمعيات السرية العربية العثمانية التي كانت تهدف إلى المطالبة بمساواة العرب والأتراك داخل دولة لا مركزية ثنائية القومية، وكان من أشهر وأهم الجمعيات في هذا الإطار: الجمعية القحطانية، جمعية العهد، جمعية العربية الفتاة، جمعية اليد السوداء، جمعية العلم الأخضر، فضلا عن العديد من الأحزاب والجمعيات العلنية مثل المنتدى الأدبي، وحزب اللا مركزية العثماني، وجمعية الشورى العثمانية.
وكانت الشخصية المشتركة التي يتكرر اسمها كثيرا بين مؤسسي وأعضاء تلك الجمعيات، بل والجمعيات السرية التركية أيضا كجمعية الاتحاد والترقي، هو الضابط عزيز المصري، ذو الأصول الشركسية من جهة والدته، حيث شارك المصري في تأسيس الجمعية القحطانية في إسطنبول عام 1909، وفي تأسيس جمعية العهد في المدينة ذاتها عام 1913، وشارك كذلك في المنتدى الأدبي الذي أسسه المحامي والسياسي اللبناني عبد الكريم الخليل في نهاية عام 1909، الذي تحوّل بعد ذلك إلى واجهة مدنية علنية للجمعية القحطانية السرية خلال عام 1910.
وكانت جمعية العهد تختلف عن الجمعية القحطانية في طابعها العسكري، حيث كان قوامها من الضباط العرب في الجيش العثماني، بينما تشكّلت القحطانية من كلٍّ من المدنيين والعسكريين على حدٍّ سواء، وكانت الرؤية المشتركة بين كلتا الجمعيتين هو رغبة أعضائها ومؤسسيها في تحويل الدولة العثمانية إلى مملكة ثنائية القومية “عربية/تركية” ذات تاجين، على غرار الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، وكان من أبرز أعضاء الجمعية القحطانية في هذا السياق: الأمير عادل أرسلان، الأمير عارف الشهابي، حسن بك حمادة، لطفي أمين الحافظ. أما بالنسبة إلى جمعية العهد فقد تكوّنت في البداية من نحو 50 ضابطا عربيا في الجيش العثماني، في مقدمتهم عزيز المصري، وازداد هذا العدد حتى وصل إلى 300 ضابط خلال أوائل الحرب العالمية الأولى.
ينقل د. محمد عبد الرحمن برج في دراسته الصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية عن عزيز المصري ودوره في الحركة الوطنية المصرية حوارا شخصيا مع فتحي رضوان زعيم الحزب الوطني القديم، قال له فيه الأخير إن عزيز المصري كان على صلة بكل الحركات الوطنية لا سيما الشابة والراديكالية منها، وهو الكلام الذي يتسق مع التاريخ السياسي الشخصي للمصري، وما يذكره الباحث العراقي محمد أمين العمري في كتابه “تاريخ مقدرات العراق السياسية” الذي يؤكد حقيقة أن المصري كان ضليعا بأمور تنظيم الجمعيات السرية، وتدبير شؤونها وأعمالها، وربما المصري هو الشخصية الأهم في هذا الإطار في تاريخ المشرق العربي الحديث بعد جمال الدين الأفغاني.
في تلك الفترة، كان مركز مصر الدولي قبل اندلاع الحرب العالمية تحدده معاهدة لندن المبرمة في عام 1840، التي ضمنت العرش في أسرة محمد علي، وكفلت لمصر استقلالا عمليا رغم السيادة العثمانية الاسمية، وهو الوضع الدولي والقانوني الذي تم العصف به من قِبل قوات الاحتلال البريطاني سنة 1882، حيث أضحى المعتمد البريطاني منذ ذلك التاريخ هو الحاكم الحقيقي للبلاد، وخضعت الحكومة المصرية للسيطرة الإنجليزية.
في ظل تلك الأجواء التي تلت الحراك الاجتماعي والسياسي الكبير الذي حدث في البلاد إبان الثورة العرابية، وفي ظل الامتيازات التي تمتع بها الأجانب في الاقتصاد المصري منذ عام 1840، نما مفهوم الوطنية المصرية، حيث تبلورت حالة شعبية وسياسية مناوئة للتدخل والاحتلال الأجنبي والامتيازات الأجنبية عبّرت عن نفسها في مواقف وأحداث كثيرة، من أبرزها تأسيس الزعيم مصطفى كامل للحزب الوطني القديم في عام 1907.
كان الاتجاه الغالب على الوطنية المصرية المبكرة، التي تجسّدت في العقيدة السياسية للحزب الوطني الذي أسّسه مصطفى كامل، ترتبط ارتباطا لا ينفصل بما عُرف وقتها بالجامعة الإسلامية، أي فكرة الوحدة السياسية للعالم الإسلامي من خلال الدولة العثمانية، ولذلك عندما قامت الحرب العالمية الأولى التي كان فيها الطرفان الإنجليزي والعثماني على طرفَيْ نقيض، كانت المشاعر الوطنية وقتها مع ما عُرف آنذاك بـ “دول المركز” في مواجهة دول الحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا العظمى. والموقف البارز لهذا التيار هو رفض الاحتلال الإنجليزي والتدخل الغربي في البلاد الإسلامية، والدعوة إلى الجهاد ضد المحتل وتنظيم المقاومة المسلحة والجمعيات السرية.
كان الخديوي عباس حلمي الثاني غائبا عن مصر في وقت نشوب الحرب، حيث قصد الأستانة في أوائل الصيف، وبقي بها إلى أن أُعلنت الحرب بين إنجلترا وألمانيا، وتردد في عودته إلى البلاد، بسبب ما بدا من عدم رغبة الحكومة البريطانية في عودته، ونيتها المبيّتة على خلعه. وبالفعل في 19 ديسمبر/كانون الأول من عام 1914، نشرت جريدة الوقائع المصرية إعلانا مهما كان هذا نصه:

“إعلان بخلع سمو عباس حلمي الثاني عن منصب الخديوية وارتقاء صاحب العظمة السلطان حسين كامل على عرش السلطنة المصرية”.

“يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديو مصر السابق على الانضمام لأعداء الملك قد رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوية، وقد عرض هذا المنصب السامي مع لقب سلطان مصر على سمو الأمير حسين كامل باشا أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد علي، فقبله”.
قوبل هذا البيان من الشعب المصري بالكثير من الدهشة و المرارة، كما يقول المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي، إذ رأى المصريون في تنصيب حسين كامل سلطانا على مصر بموجب خطاب موجّه من المعتمد البريطاني مظهرا سافرا لضياع الاستقلال، إذ لا يُمثِّل هذا السلطان المُعيَّن من قِبل إنجلترا سيادة البلاد، بل سيادة الدولة الحامية، ومن ثم كان تعيينه بتلك الطريقة يُمثِّل إهدارا لكرامة الأمة والعرش المصري. فكانت تلك اللحظات مفصلا مهما في تحوّلات الوطنية المصرية المبكرة، حيث أدّى عزل الخديوي عباس حلمي الثاني، وفك الارتباط نهائيا بين مصر والدولة العثمانية، وإحكام البريطانيين سيطرتهم على البلاد من خلال الأحكام العرفية الاستثنائية، إلى تهيئة الأجواء للصعود السياسي لنخبة جديدة تتبنّى موقفا أكثر انفتاحا ومرونة مع الاحتلال.
وهو الدور الذي لعبته المجموعة الإصلاحية من تلاميذ الشيخ محمد عبده الذي كان مُقرّبا في المرحلة الثانية من حياته، بعد خلافه مع جمال الدين الأفغاني، من اللورد كرومر القنصل البريطاني العام في مصر، وهي المجموعة التي كان أحد أبرز أفرادها هو سعد زغلول الزعيم التاريخي لحزب الوفد المصري. وهو ما تشير إليه الكثير من الوثائق والكتابات التاريخية، ومنها ما ذكره كرومر نفسه في أحد تقاريره الدبلوماسية، حيث أشار إلى أن في مصر جماعة صغيرة آخذة في التشكُّل، أطلق عليها كرومر على سبيل الاختصار أتباع المفتي محمد عبده، ووصفهم بأنهم غير متأثرين بدعوة الجامعة الإسلامية، وأنه قد اختار أحدهم على سبيل التشجيع و التجربة لوزارة المعارف ألا وهو سعد زغلول. وهو ما تؤكده حتى السيرة الشخصية لسعد زغلول الذي بدأ حياته السياسية بمصاهرة أحد أشهر أصدقاء بريطانيا في مصر، وهو مصطفى فهمي باشا، الذي تولّى رئاسة الوزراء ثلاث مرات خلال فترة الاحتلال الإنجليزي للبلاد.
الوطنية التي مَثَّلها تيار محمد عبده الإصلاحي وتلامذته، التي تجسّدت في مشروع سياسي هو حزب الوفد، يراها تميم البرغوثي الشاعر والباحث في العلوم السياسية، في أطروحته الأكاديمية التي نُشرت لاحقا في كتاب تحت عنوان “الوطنية الأليفة: الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار”، وطنية تشكّلت في إطار التبعية للاستعمار البريطاني. بيد أنها وطنية تُمثِّل النقيض الموضوعي للوطنية الجذرية التي مَثَّلها الحزب الوطني القديم وحركة مصر الفتاة لاحقا، وشخصيات بارزة مثل الشاعر الشهير أحمد شوقي وعزيز بك المصري.
الوطنية التي تحفّظ عليها عبد العزيز باشا فهمي أثناء حديثه هو وسعد زغلول وعلي شعراوي مع السير ونجت المندوب السامي البريطاني، ووصفها ضمنيا بالتطرف. وهي الوطنية ذاتها التي تحدّث عنها اللورد كرومر في تقريره عن الحالة المالية والإدارية والحالة العمومية في مصر والسودان، المرفوع إلى وزير الخارجية البريطاني إدوارد جراي في عام 1906، من خلال عرضه لموقفه من الحزب الوطني القديم تحت زعامة مصطفى كامل، حيث وصف كامل وأتباعه أنهم “عمال الجامعة الإسلامية، وأن حركتهم الوطنية صبغت بصبغة شديدة بفكرة الجامعة الإسلامية”.
لا يُجانب كرومر هنا الصواب بوصف الحزب الوطني القديم بتلك الأوصاف، حيث ارتبط ذلك الحزب منذ نشأته إلى حدٍّ بعيد بالمنطلق الإسلامي وبفكرة الوحدة الإسلامية، حيث برزت الهوية الإسلامية بشكل تلقائي في البداية لمواجهة تغلغل العناصر الأجنبية وسيطرتهم على مُقدّرات البلاد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حتى اندلاع ثورة 1919، وكان الزعيم مصطفى كامل في هذا السياق متدينا بشكل شخصي، وكانت جريدة اللواء الناطقة بلسان الحزب تولي اهتماما بالغا بالعالم الإسلامي والدولة العثمانية.
خلال حياته السياسية تواصل مصطفى باشا كامل كذلك مع أكثر من جمعية من الجمعيات العلنية وشبه السرية التي كانت تدعو إلى الجامعة الإسلامية، مثل جمعية شمس الإسلام التي كانت تُدار من إسطنبول، وجمعية مكارم الأخلاق التي كانت عضويتها تُقدَّر بالآلاف ولها فروع في أكثر المدن المصرية أهمية، وهي جمعية إسلامية كانت تهدف إلى النهوض بالإسلام، والحفاظ على شعائره وأخلاقياته ونظامه الاجتماعي. وعُرف في هذا الإطار عن رجال الحزب الوطني البارزين مثل الشيخ عبد العزيز جاويش مؤسس جمعية المواساة الإسلامية، الذي أصبح رئيس تحرير صحيفة اللواء بعد وفاة مصطفى كامل، نزعتهم الإسلامية القوية.
وفي سنة 1912 سافر جاويش إلى الأستانة، وأصدر من هناك جريدة الهلال العثماني، كما أصدر مجلتين إحداهما من ألمانيا باسم Die” Islamische Welt”، والثانية في الأستانة باسم “العالم الإسلامي”، وأخرى في سويسرا باسم مجلة “Egypte”، كما أسس جاويش لاحقا في الأستانة حزبا يُدعى “حزب الوطن العثماني”.
سافر إلى الأستانة أيضا محمد فريد، زعيم الحزب الوطني القديم بعد وفاة مصطفى كامل، ونسّق من هناك العمل السياسي الوطني في مصر، وكذلك الأعمال الفدائية الخاصة بجمعية التضامن الأخوي السرية التي قام أحد شبابها، ويُدعى إبراهيم ناصف الورداني، وهو شاب مصري درس الصيدلة في سويسرا بين عامي 1906 و1908، ودرس الكيمياء في إنجلترا في عام 1909، باغتيال رئيس الوزراء المصري بطرس غالي المقرّب من سلطات الاحتلال البريطاني. فكانت هذه الفترة هي ذروة صعود تيار “الوطنية الجذرية” قبل أن يزاحمه تيار “الوطنية الأليفة” على رأسه حزب الوفد، لتدخل مصر في دوامات السياسة والاحتجاجات والانتفاضات الشعبية التي ستنتهي بصعود دولة الضباط.

من الوطنية الجذرية إلى الإسلام السياسي: الطريق إلى يوليو 52
كان لتحركات تركيا الفتاة والانقلاب الدستوري في تركيا على السلطان عبد الحميد الثاني، من قِبل ضباط جمعية الاتحاد والترقي في عام 1909، أثر واضح على الحزب الوطني في مصر، حيث تحوّل الحزب بعد هذا الحدث إلى حركة سياسية ودستورية وحسب، بعد أن كان حزبا مشبعا بالنزوع الإسلامي، حيث سيطرت على قطاعات واسعة من أعضائه فكرة التعاون مع الحكم الجديد في تركيا، وإيجاد صلة بين الحزب الوطني وجمعية الاتحاد والترقي.
في هذا السياق سافر زعيم الحزب محمد فريد إلى الأستانة في أبريل/نيسان 1909، لتوثيق الروابط بين حزبه وجمعية الاتحاد، وتكوّنت صداقة بالفعل في هذا الإطار بين فريد وأنور باشا، والأخير كان في تلك الأثناء بجانب طلعت باشا وجمال باشا يعتبرون الحكام الفعليين للدولة العثمانية في تلك المرحلة.  وكان لزعامة محمد فريد، تحديدا بعد وفاة مصطفى كامل، دور مهم في المنعطف الجديد الذي سلكه الحزب الوطني، حيث كان فريد رئيسا لإحدى الجمعيات الماسونية [*] في مصر، وكان له علاقات لا تخفى بالمحافل الماسونية التركية.
وبعد إلغاء الخلافة الإسلامية في مارس/آذار من عام 1924، وانكفاء تركيا الحديثة على نفسها، خسر الحزب الوطني القديم أكبر داعم له في قضيته الوطنية على الصعيد الدولي. أما على الصعيد الداخلي، من جهة أخرى تراجعت شعبية الحزب على إثر الصعود السياسي لسعد زغلول وحزب الوفد بعد اندلاع ثورة 1919، وكان محصلة كل ذلك انحسار تأثير الحزب في الحياة السياسية المصرية إلى حدٍّ كبير.
في هذا السياق تأسست جمعية الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية في 22 مارس/آذار 1928، وأدّى ظهورها تدريجيا في الحياة السياسية في مصر إلى سد جانب من الفراغ الذي خلّفه تراجع الحزب الوطني القديم في الحياة السياسية المصرية، وفي السياق نفسه ورثت جماعة الإخوان التناقض السياسي مع حزب الوفد، وورثت التحالفات التقليدية له، وأصبحت جماعة الإخوان هي الممثل الأبرز لتيار الوطنية الجذرية في مصر. وقد بلغ التلاقي بين الإخوان والحزب الوطني في هذا الإطار حدًّا بعيدًا، بلغ تفكير وسعي حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين قبيل اغتياله أن يجعل من الحزب الوطني جناحا سياسيا للجماعة، وتنسحب الجماعة من الحياة السياسية بعد اغتيال محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء المصري الأسبق، الذي اغتيل على يد النظام الخاص التابع لجماعة الإخوان المسلمين بعد قرار الأخير حلّه للجماعة في 8 ديسمبر/كانون الأول 1948.
وفي سياق تشكُّل العلاقات والتحالفات التقليدية بين تيار الوطنية الجذرية وجماعة الإخوان المسلمين، تكوّنت علاقات واضحة بين حسن البنا وجماعته بشخصيات مهمة من رموز هذا التيار مثل عزيز المصري وفتحي رضوان المحامي والسياسي والصحفي المعروف، وزعيم الحزب الوطني القديم، ووزير الإرشاد القومي بعد يوليو 1952، واللواء محمد صالح حرب “صالح حرب باشا”، الذي تولى العديد من المناصب الرسمية المهمة، منها عمله وكيلا لمصلحة السجون لمدة 9 أعوام، وقائدا لخفر السواحل ثم وزيرا للحربية في عام 1939. وقد قام في ذلك الحين عقب توليه الوزارة بتعيين عزيز باشا المصري رئيسا لأركان الجيش المصري.
حرب هو مَن أسس أيضا جمعية الشبان المسلمين شديدة القرب تاريخيا من جماعة الإخوان، وكان له كذلك صلات شخصية وتاريخ مشترك مع الصاغ محمود لبيب وكيل جماعة الإخوان للشؤون العسكرية، والمسؤول عن الضباط الإخوان في الجيش المصري خلال أربعينيات ومطلع خمسينيات القرن الماضي، وعضو الحزب الوطني القديم السابق والمقرب من مصطفى كامل ومحمد فريد، حيث شارك حرب ولبيب أثناء خدمتهم كضباط في الجيش المصري في مساعدة السنوسيين في جهادهم ضد الإيطاليين خلال فترة الحرب العالمية الأولى، وكانا معا أيضا في إسطنبول خلال فترة الحرب العالمية الأولى أثناء وجود الزعيم محمد فريد هناك، وعادا معا إلى القاهرة عقب إعلان نهاية الخلافة العثمانية، بعد صدور عفو سياسي من حكومة الوفد برئاسة سعد زغلول عن جميع المنفيين السياسيين خلال عام 1924.
إلا أنه لم يكن من الغريب حدوث هذا التلاقي بين الحزب الوطني وجماعة الإخوان المسلمين، حيث كان النزوع الإسلامي المبكر في كوادر ذلك الحزب واضحا على نحو لا يخفى على أحد، كما تعكس الكلمات التي قالها إبراهيم الورداني قبل إعدامه بسبب اغتياله لرئيس الوزراء بطرس غالي، هو والعديد من رجال جمعية التضامن الأخوي المرتبطة بالحزب الوطني الذين حُكم عليهم كذلك بالإعدام في قضية اغتيال سردار الجيش المصري وحاكم السودان السير لي ستاك، نزعتهم الدينية الواضحة. وقد كان أحد شباب تلك الجمعية الذين نجوا من الإعدام هو عبد العزيز علي، الذي تولى مقعدا وزاريا في حكومة ثورة 23 من يوليو/تموز خلال الفترة بين سبتمبر/أيلول 1952 وديسمبر/كانون الأول 1952، قد تعرض عبد العزيز للاعتقال لاحقا في قضية تنظيم سيد قطب عام 1965.
فكان خطاب جماعة الإخوان المسلمين المعبّر بشكل ديني عن اتجاه الوطنية الجذرية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي جاذبا للعديد من الضباط الشباب في الجيش المصري، وكان من بين هؤلاء النقيب جمال عبد الناصر حسين، الذي بدأ يتردد على درس الثلاثاء في دار المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بالحلمية منذ أكتوبر/تشرين الأول عام 1942، كما يذكر الضابط طيار عبد المنعم عبد الرؤوف عضو جماعة الإخوان وعضو تنظيم الضباط الأحرار في مذكراته.
يروي الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي كان ضابطا صغيرا في تلك الأثناء، في مقال له منشور في الـ 8 من مايو/أيار عام 1981 بعنوان “عرفت هؤلاء”، أنه التقى الفريق عزيز المصري بتوصية من حسن البنا مرشد جماعة الإخوان المسلمين، وكلمة سر خاصة، حيث كان البنا على صلة بالسادات، وكان يستقبله في مكتبه في مقر جماعة الإخوان المسلمين في منطقة الحلمية على نحو دوري متواصل كل يوم ثلاثاء كما يروي السادات.
حيث يقول في مقاله إنه ذهب إلى عيادة الدكتور إبراهيم حسن -وكيل جماعة الإخوان المسلمين آنذاك- التي تقع أمام مدرسة السنية للبنات في الطريق بين شارع المبتديان وميدان السيدة زينب، دخل السادات العيادة ودفع قيمة الكشف -الفيزيتا- ثم انتظر دوره، ثم دخل إلى الطبيب وقال له كلمة السر التي أعطاها له البنا، فقام الدكتور إبراهيم على الفور بفتح باب داخلي يقود إلى غرفة أخرى، كان يجلس فيها عزيز المصري.
العلاقات بين السادات وحسن البنا والفريق عزيز المصري هي جزء من الوقائع العديدة التي تشير إلى التعاون والتنسيق القائم بين حركات وشخصيات اتجاه الوطنية الجذرية والإسلام السياسي، وهناك سيل من الشواهد والقرائن في هذا الإطار يمكن التوصل إليها من خلال قراءة أرشيف الأوراق القانونية لاتهامات النيابة وتحريات البوليس والقلم السياسي المصري في قضايا اغتيال أمين عثمان، وقضية اغتيال رئيس الوزراء المصري أحمد ماهر، والمحاكمة العسكرية في قضية محاولة هروب عزيز المصري الفاشلة بطيارة عسكرية مصرية إلى العراق خلال الحرب العالمية الثانية هو والضابطين حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرؤوف، والأخير معروف انتماؤه لجماعة الإخوان المسلمين.
أحد الشواهد المهمة على تلك التشابكات والعلاقات السرية المعقدة ما ذكره الضابط حسين حمودة عضو تنظيم الضباط الأحرار، وعضو النظام الخاص بجماعة الإخوان المسلمين، في مذكراته أن عبد المنعم عبد الرؤوف كلّفه باغتيال أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد (1942- 1944) ورئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية، لكن طلب منه الصاغ محمود لبيب التراجع كي لا ينكشف تنظيم الضباط السري التابع للإخوان داخل الجيش، وقال إن تشكيلا آخر سينفذ العملية.  شارك في تنفيذ تلك العملية لاحقا أنور السادات في عام 1946، خلال الوقت الذي كان فيه مفصولا من الجيش، جدير بالذكر أن ذلك التنظيم الذي كان يتحدث عنه لبيب هو تنظيم الحرس الحديدي [**] المقرب من القصر الملكي ومن عزيز المصري على حدٍّ سواء. وفي تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر الحديث وُلد تنظيم الضباط الأحرار ليستولي على حكم مصر، لتبقى مصر تحت حكم الجيش إلى اليوم.

نشأة تنظيم الضباط الأحرار
يروي الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر في حواره المنشور في مجلة المصور مع الصحفي حلمي سلام تحت عنوان “قصة ثورة الجيش من المهد إلى المجد” كيف نشأ تنظيم الضباط الأحرار، حيث يقول: “كان يجمعنا وينظمنا المرحوم الصاغ (م . ل)”، ويقصد عبد الناصر هنا عبر الإشارة بتلك الأحرف الأولى الصاغ محمود لبيب وكيل جماعة الإخوان للشؤون العسكرية. ويقول عبد المنعم عبد الرؤوف العضو في تنظيم الضباط الأحرار في هذا السياق إن لبيب اقترح في مايو/أيار ١٩٤٩، قبل أن يُتوفّى بعامين، استبدال اسم تنظيم “الضباط الأحرار” باسم تنظيم الإخوان الضباط في الجيش المصري بعد بدء تحقيقات رسمية عن علاقة عبد الناصر بالإخوان. وبعد خلاف دار لاحقا بين عبد الناصر وعبد الرؤوف حول فكرة ضم الضباط غير الملتزمين دينيا إلى ذلك التنظيم الجديد، يروي عبد الرؤوف أن الطرفين قرّرا بعد ذلك الخلاف أن يحتكما للفريق عزيز المصري، الذي أشار عليهما بالتنسيق معا على الأقل.
قبل الـ 23 من يوليو/تموز 1952، تم وضع تقرير سري أمام الملك فاروق يفيد أن 33% من ضباط جيشه لديهم صلات بجماعة الإخوان المسلمين، وأن ترتيبا سريا جرى بين الإخوان وتنظيم الضباط الأحرار يقضي بتأييد الجماعة لانقلاب عسكري يدبره الضباط ضده، وهو الأمر الذي قد جرى بالفعل حسب ما يروي الضابط حسين حمودة عضو الضباط الأحرار في مذكراته، حيث اتفق عبد الناصر مع حسن الهضيبي مرشد جماعة الإخوان على دور محدد للإخوان في حماية السفارات الأجنبية ومرافق الدولة، والاستعداد على طول الطريق بين القاهرة والسويس تحسبا لأي تدخل من الجنود البريطانيين من قاعدتهم العسكرية الموجودة في منطقة القناة. وبعدما أدّى الإخوان دورهم في ثورة 52 حدث الخلاف الشهير بين عبد الناصر والإخوان والذي سينتهي باستبعاد الاخوان نهائيا من الحياة السياسية على الأقل حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين.

الإسلام السياسي وجمهورية الضباط: أزمة الإسلاميين والديمقراطية في دولة يوليو
بعد 23 من يوليو/تموز 1952، تغيرت خريطة اللاعبين السياسيين في مصر إلى الأبد، فبعد أن كانت تتكوّن من مثلث السراي والوفد والإنجليز، جاء الضباط وأطاحوا بالجميع، وأوقفوا الحياة السياسية، وألغوا الأحزاب، وأنهوا الديمقراطية وتداول السلطة في البلاد بلا رجعة. الصعود السريع والقوي للضباط كان أحد فصول الصراع الطويل والمكتوم والغامض بين الوطنية الأليفة، كما أطلق عليها البرغوثي، متمثِّلة في الوفد، وبين تيار الوطنية الجذرية الذي شهد من داخله تحولات عنيفة وجذرية منذ تشكُّل الحزب الوطني القديم والجمعيات السرية والفدائية ثم ظهور جماعة الإخوان المسلمين، ثم التحول الأكثر جذرية وعنفا المتمثِّل في مجموعة الضباط الأحرار الذين سيولون ظهورهم للإسلام السياسي كليًّا.
وبدلا من المرجعية الدينية استعان جمال عبد الناصر بالأيديولوجية الاشتراكية، وبعدد من الهيئات كان أولها مديرية التحرير التي تطورت لاحقا إلى الاتحاد الاشتراكي العربي، وقام بتحجيم دور الأزهر، واستولى على الأوقاف المصرية، وسعى لتحديث الدولة بأفكار القومية العربية عبر المؤسسات الأمنية والبيروقراطية ذاتها التي تركها الاستعمار الأجنبي قبل رحيله. فكان الخلاف بين الضباط والإخوان أيدولوجيًّا وسياسيًّا، أيدولوجيًّا من جهة أن الإسلام السياسي كان يُشكِّل تحديا أمام الجمهورية الناشئة، التي تريد أن تبني شعبيتها وتفرض ثقافة جديدة تتبنّى مشروع التحديث والانقطاع مع القديم ومواكبة العالم المعاصر، وسياسيًّا من جهة أخرى لأن الإخوان كانوا هم القوة السياسية الرئيسية في الشارع المصري منذ منتصف الأربعينيات فكان يجب سحب البساط من تحتهم.
ولم يكن اختيار اسم “الحزب الوطني” في المرحلة الثانية من جمهورية يوليو من قِبل الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات في عام 1978 عبثيا أو عفو الخاطر، بل كان تعبيرا عن الخط السياسي والشرعية التاريخية التي تستمدها دولة يوليو من تجاه الوطنية الجذرية التاريخي، ولكنه لم يكن إلا امتدادا اسميا وشكليا فقط، بعد نقض عروتين رئيسيتين من عُرى هذه الوطنية، ألا وهما المرجعية الدينية التي توارت خلال الصدام مع جماعة الإخوان المسلمين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والاستقلال الوطني الذي تآكل على إثر ترتيبات ما بعد كامب ديفيد، واستحقاقات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.
التكوين الشائه لدولة يوليو، الذي جمع عناصر متناقضة دينية وعلمانية، أسهم لاحقا في إنتاج أزمة لم يفلح انفتاح أنور السادات السياسي الظاهري، أو ديمقراطية حسني مبارك الديكورية، في احتوائها لعقود، ألا وهي أزمة دمج الإسلاميين في الحياة السياسية والحزبية في مصر، حيث مارس الإخوان السياسة بعد خروجهم من السجون الناصرية من وراء لافتات حزبية أخرى وتحالفات انتخابية مثل التحالف الشهير مع حزب الوفد في انتخابات مجلس الشعب المصري عام 1984، وتحالفهم مع حزبَيْ العمل والأحرار في عام 1987.
الأزمة التي أدّت إلى عدم قدرة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي القادم من صفوف الإخوان، ومن خارج جهاز الدولة وتيارها السياسي العام، على إدارة الجهاز البيروقراطي والأمني واحتواء مؤسسات الدولة العميقة في مصر، على النحو الذي خلق ذلك الاستقطاب السياسي الذي شهده المجتمع المصري خلال فترة رئاسته القصيرة وقاد إلى مشهد الـ 30 من يونيو/حزيران 2013، وصولا للأزمة السياسية الراهنة بين الإخوان وبين النظام المصري الحالي التي يبدو ألّا نهاية لها في الأفق القريب.

————————————————————–

هامش:

* الماسونية: هي جمعية أخوية سرية تأسس محفلها الأكبر في لندن بشكل رسمي عام 1717، وانتشرت محافلها منذ ذلك التاريخ في جميع أرجاء الإمبراطورية البريطانية ومعظم بلدان العالم، وترجمة اسمها إلى العربية هو البناءون الأحرار، حيث تعو جذور تلك الجمعية إلى النقابات التي ألفها بنائي القلاع والكاتدرائيات في أوروبا خلال القرون الوسطى ولم يُعرف صلتها بالصهيونية في ذلك الوقت.
** الحرس الحديدي: تنظيم سري شكله يوسف رشاد الطبيب الخاص للملك فاروق قوامه الرئيسي من ضباط الجيش المصري، وكان هدفه الأساسي حماية الملك وتصفية خصومه السياسيين.

المصدر: موقع “ميدان” التابع لــ “الجزيرة نت”

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى